فصل: باب عِتْقِ الْمُشْرِكِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


الجزء السابع

بسم الله الرحمن الرحيم

كِتَاب الشَّرِكَةِ

باب مَا جَاءَ فِى الشَّرِكَةِ فِى الطَّعَامِ وَالنَّهْدِ وَالْعُرُوضِ وَكَيْفَ قِسْمَةُ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ مُجَازَفَةً أَوْ قَبْضَةً قَبْضَةً

لَمَّا لَمْ يَرَ الْمُسْلِمُونَ فِى النَّهْدِ بَأْسًا أَنْ يَأْكُلَ هَذَا بَعْضًا وَهَذَا بَعْضًا، وَكَذَلِكَ مُجَازَفَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْقِرَانُ فِى التَّمْرِ‏.‏

- فيه‏:‏ جَابِر‏:‏ بَعَثَ النّبِىّ عليه السَّلام بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَهُمْ ثَلاَثُمِائَةٍ، وَأَنَا فِيهِمْ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِىَ الزَّادُ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَكَانَ مِزْوَدَىْ تَمْرٍ، فَكَانَ يُقَوِّتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلاً قَلِيلاً حَتَّى فَنِىَ، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلاَ تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ، فَقُلْتُ‏:‏ وَمَا تُغْنِى تَمْرَةٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ، قَالَ‏:‏ ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا حُوتٌ مِثْلُ الظَّرِبِ، فَأَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَيْشُ ثَمَانِىَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعَيْنِ مِنْ أَضْلاَعِهِ فَنُصِبَا، ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا، فَلَمْ تُصِبْهُمَا‏.‏

- وفيه‏:‏ سَلَمَةَ‏:‏ خَفَّتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ وَأَمْلَقُوا، فَأَتَوُا النَّبِىَّ عليه السَّلام فِى نَحْرِ إِبِلِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ‏:‏ مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ‏؟‏ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إِبِلِهِمْ‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ نَادِ فِى النَّاسِ يَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، فَبُسِطَ لِذَلِكَ نِطَعًا، وَجَعَلُوهُ عَلَى ذَلِك النِّطَعِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ، فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ رَافِعَ، كُنَّا نُصَلِّى مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ، فَنَنْحَرُ جَزُورًا، فَيُقْسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ، فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى‏:‏ قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِى الْغَزْوِ، وَقَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِى إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّى وَأَنَا مِنْهُمْ‏)‏‏.‏

النهد‏:‏ ما يجمعه الرفقاء من مال، أو طعام، على قدر فى الرفقة، ينفقونه بينهم، وقد تناهدوا عن صاحب العين‏.‏

وقال ابن دريد‏:‏ يقال من ذلك‏:‏ ناهد القوم الشىء، تناولوه بينهم‏.‏

وقال المهلب‏:‏ هذه القسمة لا تصلح إلا فيما جعل للأكل خاصة؛ لأن طعام النهد وشبهه لم يوضع للآكلين على أنهم يأكلون بالسواء، وإنما يأكل كل واحد على قدر نهمته، وقد يأكل الرجل أكثر من غيره، وهذه القسمة موضوعة بالمعروف، وعلى طريقة بين الآكلين، ألا ترى جمع أبى عبيدة بقية أزواد الناس، ثم شركهم فيها بأن قسم لكل واحد منهم، وقد كان فيهم من لم يكن له بقية طعام، وقد أعطى بعضهم أقل مما كان بقى له ولآخر أكثر، وكذلك فى حديث سلم قسم النبى صلى الله عليه وسلم بينهم بالاحتثاء، وهو غير متساو‏.‏

وهذا الفعل للنبى صلى الله عليه وسلم هو الذى امتثل أبو عبيدة فى جمعه للأزواد، وإنما يكون هذا عند شدة المجاعة، فللسلطان أن يأمر الناس بالمواساة ويجبرهم على ذلك، ويشركهم فيما بقى من أزوادهم أحياء لإرماقهم وإبقاء لنفوسهم، وفيه أن للإمام أن يواسى بين الناس فى الأقوات فى الحضر بثمن وبغير ثمن، كما له فعل ذلك فى السفر‏.‏

وقد استدل بعض العلماء بهذا الحديث، وقال‏:‏ إنه أصل فى ألا يقطع سارق فى مجاعة؛ لأن المواساة واجبة للمحتاجين، وقد تقدم كثير من معانى هذا الحديث فى باب حمل الزاد فى الغزو فى كتاب الجهاد‏.‏

وفى حديث رافع‏:‏ قسمة اللحم بالتحرى بغير ميزان؛ لأن ذلك من باب المعروف، وهو موضوع للأكل، وأما قسمة الذهب والفضة مجازفة، فلا تجوز بإجماع الأمة؛ لتحريم التفاضل فى كل واحد منهما، وإنما اختلف العلماء فى قسمة الذهب مع الفضة مجازفة، أو بيع ذلك مجازفة، فكرهه مالك، ورآه من بيع الغرر والقمار، ولم يجزه‏.‏

وأما الكوفيون، والشافعى، وجماعة من العلماء، فأجازوا ذلك؛ لأن الأصل فى الذهب بالفضة جواز التفاضل، فلا حرج فى بيع الجزاف من ذلك وقسمته، وكذلك قسمة البر مجازفة لا تجوز، كما لا يجوز بيع جزاف بُر ببر ونحوه مما حرم فيه التفاضل، وما يجوز فيه التفاضل، فإنما الربا فيه فى النسيئة خاصة‏.‏

وأملق الرجل‏:‏ افتقر، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏، أى خشى الفقر، ومثله أرملوا، يقال‏:‏ أرمل القوم، فنى زادهم‏.‏

باب مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فِى الصَّدَقَةِ

- فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ ‏(‏وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ‏)‏‏.‏

فقه هذا الباب أن الشريكين إذا كان رأس مالهما سواء، فهما شريكان فى الربح، فمن أنفق من مال الشركة أكثر مما أنفق صاحبه تراجعا عند أخذ الربح بقدر ما أنفق كل واحد منهما، فمن أنفق قليلاً رجع على من أنفق أكثر منه؛ لأن النبى عليه السَّلام لما أمر الخليطين فى الغنم بالتراجع بينهما بالسواء وهما شريكان، دل ذلك على أن كل شريك فى معناهما‏.‏

باب قِسْمَةِ الْغَنَمِ

- فيه رَافِع، قَالَ‏:‏ كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَابُوا إِبِلاً وَغَنَمًا، قَالَ‏:‏ وَكَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ، فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ بَعِيرٌ، فَطَلَبُوهُ، فَأَعْيَاهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وترجم له باب إذا عدل عشرة من الغنم بجزور فى القسمة، وقال فيه‏:‏ فعدل عشرة من الغنم بجزور‏.‏

أجاز قسم الغنم والبقر والإبل بغير تقويم‏:‏ مالك، والكوفيون، وأبو ثور، إذا كان ذلك على التراضى‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا يجوز قسم شىء من الحيوان بغير تقويم، وحجة من أجاز ذلك أن النبى عليه السَّلام قسم الغنائم، وكان أكثر غنائم خيبر الإبل والغنم، ولم يُذكر فى شىء من ذلك تقويم‏.‏

قالوا‏:‏ وتعديل الغنم بالغنم، والبقر بالبقر، والإبل بالإبل جائز على التراضى فى القسمة، ولا ربا يدخلها؛ لأنه يجوز فيها التفاضل يدًا بيد‏.‏

ومن حجة الشافعى أن قسمة النبى صلى الله عليه وسلم الغنم مع الإبل إنما كانت على طريق القيمة، ألا ترى أنه عدل عشرة من الغنم ببعير، وهذا هو معنى التقويم‏.‏

باب الْقِرَانِ فِى التَّمْرِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَر، نَهَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْرُنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ‏.‏

قال‏:‏ النهى عن القران فى التمر عند العلماء من باب حسن الأدب فى الأكل؛ لأن القوم الذين وضع بين أيديهم التمر كالمتساوين فى أكله، فإذا استأثر أحدهم بأكثر من صاحبه لم يحمد له ذلك، ومن هذا الباب جعل أهل العلم النهى عن النهبة فى طعام النثر فى الأعراس وغيرها، لما فيه من سوء الأدب والاستئثار بما لا تطيب عليه نفس صاحب الطعام‏.‏

وقال أهل الظاهر‏:‏ إن النهى عن القران على الوجوب لا على حسن الأدب، وفاعل ذلك عاص لله إذا كان عالمًا بالنهى‏.‏

ولا نقول أنه أكل حرامًا؛ لأن أصله الإباحة جملة، والدليل على أنه على حسن الأدب لا على الوجوب أن ما وضع بين أيدى الناس للأكل، فإنما سبيله سبيل المكارمة لا سبيل التشاح، لاختلاف الناس فى الأكل، فبعضهم يكفيه اليسير، وبعضهم لا يكفيه أضعافه، فلو كانت سهماتهم، سواء لما ساغ لمن لا يشبعه اليسير أن يأكل من مثل نصيب من يشبعه اليسير، ولما لم يتشاح الناس فى هذا المقدار علم أن سبيل هذا المكارمة، وليس على الوجوب، والله أعلم‏.‏

باب تَقْوِيمِ الأَشْيَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِقِيمَةِ عَدْلٍ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَر، قَالَ‏:‏ قَالَ النّبِىّ، عَلَيهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِى عَبْدٍ، أَوْ شِرْكًا لَهُ، أَوْ قَالَ‏:‏ نَصِيبًا، وَكَانَ لَهُ مال يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ، فَهُوَ عَتِيقٌ، وَإِلاَ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ أَعْتَقَ شَقِصًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلاَصُهُ فِى مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِىَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

قال‏:‏ اختلف العلماء فى قسمة الرقيق، فذهب أبو حنيفة والشافعى إلى أنه لا يجوز قسمته إلا بعد التقويم، وحجتهم حديث ابن عمر، وأبى هريرة، أن النبى عليه السَّلام قال‏:‏ ‏(‏من أعتق شقصًا له من عبد قوم عليه قيمة عدل‏)‏، قالوا‏:‏ فأجاز عليه السَّلام تقويمه فى البيع للعتق، وكذلك تقويمه فى القسمة‏.‏

وذهب مالك، وأبو يوسف، ومحمد، إلى أنه تجوز قسمة الرقيق بغير تقويم إذا تراضوا على ذلك، وحجتهم أن النبى عليه السَّلام قسم غنائم حنين، وكان أكثرها السبى والماشية، لا فرق بين الرقيق وسائر الحيوان، ولم يُذكر فى شىء من السبى تقويم، وتناقض أبو حنيفة، فأجاز قسم الإبل والبقر والغنم بغير تقويم، وزعم أن الفرق بين الرقيق وسائر الحيوان أن اختلاف الرقيق متفاوت، وهذا ليس بشىء؛ لأن القسمة بيع من البيوع، وكل بيع صحيح جائز إذا انعقد على التراضى‏.‏

ولا خلاف بين العلماء أن قسمة العروض وسائر الأمتعة بعد التقويم جائزة، وإنما اختلفوا فى قسمتها بغير تقويم، فأجاز ذلك مالك، والكوفيون، وأبو ثور، إذا كان ذلك على سبيل التراضى، ومنع من ذلك الشافعى، وقال‏:‏ لا يجوز قسم شىء من ذلك إلا بعد التقويم قياسًا على حديث ابن عمر فى تقويم العبد‏.‏

باب هَلْ يُقْرَعُ فِى الْقِسْمَةِ وَالاسْتِهَامِ

- فيه‏:‏ النُّعْمَانَ بْن بَشِير، قَالَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِى أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا‏:‏ لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِى نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ، وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا‏)‏‏.‏

القرعة سنة لكل من أراد العدل فى القسمة بين الشركاء، والفقهاء متفقون على القول بها، وخالفهم بعض الكوفيين، وردت الأحاديث الواردة فيها، وزعموا أنه لا معنى لها، وأنها تشبه الأزلام التى نهى الله عنها، وحكى ابن المنذر، عن أبى حنيفة أنه جوزها، وقال‏:‏ القرعة فى القياس لا تستقيم، ولكنا تركنا القياس فى ذلك وأخذنا بالآثار والسنة‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وليس فى القرعة إبطال شىء من الحق كما زعم الكوفيون، وإذا وجبت القسمة بين الشركاء فى أرض أو دار، فعليهم أن يعدلوا ذلك بالقيمة، ثم يستهموا ويصير لكل واحد منهم ما وقع له بالقرعة مجتمعًا مما كان له فى الملك مشاعًا، فيصير فى موضع بعينه، ويكون له ذلك بالعوض الذى صار لشريكه؛ لأن مقادير ذلك قد عدل بالقيمة‏.‏

وإنما منعت القرعة أن يختار كل واحد منهم موضعًا بعينه، وهذا إنما يكون فيما يتشابه من الدور والأرض والعروض، وما تستوى رغبة الناس فى كل موضع مما يقترع عليه‏.‏

وفى قوله، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏كمثل قوم استهموا على سفينة‏)‏، جواز القرعة؛ لإقرار النبى صلى الله عليه وسلم لها، وأنه لم يذم المستهمين فى السفينة، ولا أبطل فعلهم، بل رضيه وضربه مثلاً لمن نجى نفسه من الهلكة فى دينه، وقد ذكر البخارى أحاديث كثيرة فى القرعة فى آخر كتاب الشهادات، وترجم له باب القرعة فى المشكلات‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث النعمان بن بشير تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وفيه تبيين العالم للمسألة بضرب المثل الذى يفهم للعوام، وفيه أنه يجب على الجار أن يصبر على شىء من الأذى لجاره خوفًا مما هو أشد منه‏.‏

وأما أحكام العلو والسفل تكون بين رجلين، فيعتل السفل أو يريد صاحبه هدمه، فذكر سحنون، عن أشهب أنه قال‏:‏ إذا أراد صاحب السفل أن يهدم، وأراد صاحب العلو أن يبنى علوه، فليس لصاحب السفل أن يهدم السفل إلا من ضرورة يكون هدمه له أرفق لصاحب العلو؛ لئلا ينهدم بانهدامه العلو، وليس لرب العلو أن يبنى على علوه شيئًا لم يكن قبل ذلك إلا الشىء الخفيف الذى لا يضر بصاحب السفل‏.‏

ولو تكسرت خشبة من سقف العلو لأدخل مكانها خشبة ما لم تكن أثقل منها، ويخاف ضررها على صاحب السفل‏.‏

قال أشهب‏:‏ وباب الدار على صاحب السفل‏.‏

قال‏:‏ ولو انهدم السفل والعلو، أجبر صاحب السفل على بنائه، وليس على صاحب العلو أن يبنى السفل، فإن أبى صاحب السفل من البناء، قيل له‏:‏ بع ممن يبنى‏.‏

وروى ابن القاسم، عن مالك فى السفل لرجل والعلو لآخر، فاعتل السفل، فإن صلاحه على رب السفل، وعليه تعليق العلو حتى يصلح سفله؛ لأن عليه أن يحمله إما على بنيان وإما على تعليق‏.‏

وكذلك لو كان العلو على علو، فتعليق العلو الثانى على صاحب الأوسط فى إصلاح الأوسط، وقد قيل‏:‏ إن تعليق العلو على رب العلو حتى يبنى الأسفل‏.‏

وحديث النعمان حجة لقول مالك وأشهب، وفيه دليل على أن صاحب السفل ليس له أن يحدث على صاحب العلو ما يضر به، وإن أحدث عليه ضررًا لزمه إصلاحه دون صاحب العلو، وأن لصاحب العلو منعه من الضرر، لقوله، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا‏)‏، ولا يجوز الأخذ إلا على يد الظالم ومن هو ممنوع من إحداث ما لا يجوز له فى السنة‏.‏

باب شَرِكَةِ الْيَتِيمِ وَأَهْلِ الْمِيرَاثِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، فِى قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏، قَالَتْ‏:‏ هِىَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِى حَجْرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِى مَالِهِ، فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فى صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يُنْكِحُوهُنَّ إِلاَ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنَ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال‏:‏ شركة اليتيم ومخالطته فى ماله لا تجوز عند العلماء إلا أن يكون لليتيم فى ذلك رجحان، فإن كان الرجحان لمخالطه أو مشاركه فلا يحل؛ لأن الله تعالى حرم أكل أموال اليتامى، ثم قال بعد ذلك‏:‏ ‏(‏ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 220‏]‏، فأباحت هذه الآية مخالطتهم ومشاركتهم بغير ظلم لهم‏.‏

باب الشَّرِكَةِ فِى الأَرَضِينَ وَغَيْرِهَا

- فيه‏:‏ جَابِر، جَعَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الشُّفْعَةَ فِى كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ‏.‏

اختلف أهل العلم فيما يحتمل القسم من الدور والأرضين، هل يقسم بين الشركاء إذا دعا بعضهم إلى ذلك، وفى قسمته ضرر على بعض‏؟‏ فقال مالك‏:‏ يقسم بينهم ذلك، وهو قول الشافعى‏.‏

وقال أبو حنيفة فى الدار الصغيرة بين اثنين يطلب أحدهما القسمة وأبى صاحبه‏:‏ قسمت له‏.‏

وقال ابن أبى ليلى‏:‏ إن كان فيهم من لا ينتفع بما يقسم له فلا يقسم، وكل قسم يدخل الضرر على أحدهم دون الآخر فإنه لا يقسم، وهو قول أبى ثور‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وهذا أصح القولين‏.‏

وأجاز مالك قسم البيت وإن لم يكن فى نصيب أحدهم ما ينتفع به، وأجاز قسم الحمام وغيره، واحتج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مما قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏‏.‏

قال ابن القاسم‏:‏ وأنا أرى أن كل ما لا ينقسم من الدور والحمامات والمنازل، وفى قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم، أن يباع ويقسم ثمنه ولا شفعة فيه؛ لقوله، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لا ضرر ولا ضرار‏)‏، ولقوله‏:‏ ‏(‏الشفعة فى كل ما لم ينقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة‏)‏، فجعل عليه السَّلام الشفعة فى كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود، وعلق الشفعة بما لم ينقسم مما لم يمكن إيقاع الحدود فيه، هذا دليل الحديث، ولا حجة للكوفيين فى إجازة الضرر اليسير من ذلك ومنعهم للكثير؛ لأن دفع الضرر واجب على المسلمين فى كل شىء‏.‏

باب إِذَا اقَسَمَ الشُّرَكَاءُ الدُّورَ وَغَيْرَهَا فَلَيْسَ لَهُمْ رُجُوعٌ وَلاَ شُفْعَةٌ

- فيه‏:‏ جَابِرِ‏:‏ قَضَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِى كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ‏.‏

قال‏:‏ إذا كانت قسمة مراضاة واتفاق، فلا رجوع فيها، وإن كانت قسمة قرعة وتعديل، ثم بان التغابن فيها، فللمغبون الرجوع ونقض القسمة عند العلماء، وأما الشفعة فلا تكون فى شىء مقسوم عند أحد من العلماء، وإنما هى فى المشاع؛ لقوله، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏فإذا وقعت الحدود فلا شفعة‏)‏‏.‏

باب الاشْتِرَاكِ فِى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ الصَّرْفُ

- فيه‏:‏ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِى مُسْلِمٍ، قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ أَبَا الْمِنْهَالِ عَنِ الصَّرْفِ يَدًا بِيَدٍ، فَقَالَ‏:‏ اشْتَرَيْتُ أَنَا وَشَرِيكٌ لِى شَيْئًا يَدًا بِيَدٍ وَبنَسِيئَةً، فَجَاءَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، فَسَأَلْنَاهُ، فَقَالَ‏:‏ فَعَلْتُ أَنَا وَشَرِيكِى زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَسَأَلْنَا النَّبِىَّ عليه السَّلام عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَخُذُوهُ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَرَدُوهُ‏)‏‏.‏

فى هذا الحديث أنه لا يجوز فى شىء من الصرف نسيئة، وإنما يكون يدًا بيد، وأما صفة الشركة فى الصرف وغيرها، فأجمع العلماء على أن الشركة فى الدنانير والدراهم جائزة، واختلفوا إذا كانت الدنانير من أحدهما والدراهم من الآخر‏.‏

فقال مالك، والكوفيون، والشافعى، وأبو ثور‏:‏ لا تجوز حتى يخرج أحدهما مثل ما أخرج صاحبه‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ وإنما لم يجز ذلك؛ لأنه صرف وشركة، وكذلك قال لى مالك‏.‏

وذكر ابن أبى زيد، قال‏:‏ وقد اختلف عن مالك فى إجازة الشركة بدنانير من أحدهما ودراهم من الآخر، وأجازه سحنون، وأكثر قول مالك‏:‏ أنه لا يجوز‏.‏

وقال الثورى‏:‏ يجوز أن يجعل أحدهما دنانير والآخر دراهم فيخلطاها، وذلك أن كل واحد منهما قد باع نصف نصيبه بنصف نصيب صاحبه، فآل‏:‏ أمرهما إلى قسمة ما يحصل فى أيديهما فى المتعقب‏.‏

وأجمع العلماء أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد من الشريكين مالاً مثل مال صاحبه، ثم يخلطان ذلك ولا يتميز، ثم ليس لأحدهما أن يبيع إلا مع صاحبه، إلا أن يجعل كل واحد منهما لصاحبه أن يتجر بما رآه، ويقيمه مقام نفسه‏.‏

باب مُشَارَكَةِ الذِّمِّىِّ وَالْمُشْرِكِينَ فِى الْمُزَارَعَةِ

- فيه‏:‏ ابن عُمَر، أن النّبِىّ عليه السَّلام أعطى خَيْبَرَ الْيَهُودَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا‏.‏

قال المهلب‏:‏ كل ما لا يدخله ربا ولا ينفرد به الذمى، فلا بأس بشركة المسلم له فيه، وهذه المشاركة إنما معناها معنى الأجرة، واستئجار أهل الذمة جائز حلال، وأما مشاركة الذمى ودفع المال إليه ليعمل فيه، فكرهه ابن عباس، وكرهه الكوفيون، والشافعى، وأبو ثور، وأكثر العلماء، لما يخاف عليه من التجر بالربا وبيع ما لا يحل بيعه، وهو جائز عندهم‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا تجوز شركة المسلم للذمى إلا أن يكون النصراني يتصرف بحضرته، ولا يغيب عنه فى شراء ولا بيع ولا تقاض، أو يكون المسلم هو متولى البيع والشراء‏.‏

وروى ذلك عن عطاء والحسن، وبه قال الليث، والثورى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

واحتج من أجاز ذلك بمعاملة النبى صلى الله عليه وسلم لهم فى مساقاة خيبر، وإذا جاز مشاركتهم فى عمارة الأرض جاز فى غير ذلك، واحتج لمالك أن الذمى إذا تولى الشراء باع بحكم دينه، وأدخل فى مال المسلم ما لا يحل له، والمسلم ممنوع من أن يجعل ماله متجرًا فى الربا والخمر والخنزير، وأما أخذ أموالهم فى الجزية، فالضرورة دعت إلى ذلك، إذ لا مال لهم غيرها‏.‏

باب قِسْمَةِ الْغَنَمِ وَالْعَدْلِ فِيهَا

- فيه‏:‏ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى أصحابه، فَبَقِىَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ للنّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏ضَحِّ بِهِ أَنْتَ‏)‏‏.‏

هذه القسمة يجوز فيها ما لا يجوز فى القسمة التى هى تمييز الحقوق بعضها من بعض؛ لأن النبى عليه السَّلام إنما وكل عقبة على تفريق الضحايا على أصحابه، ولم يعين فيها لأحد منهم شيئًا بعينه، فيخاف أن يعطى غيره عند القسمة، فيكون ذلك ظلمًا له ونقصانًا عن حقه، فكان تفريقها موكولاً إلى اجتهاد عقبة، وكان ذلك على سبيل التطوع من النبى عليه السَّلام لا أنها كانت واجبة عليه لأصحابه، فلم يكن على عقبة حرج فى قسمتها، ولا لزمه من أحد منهم ملامة إن أعطاه دون ما أعطى صاحبه، وليس كذلك القسمة بين من حقوقهم واجبة متساوية فى المقسوم، فهذه لا يكون فيها تغابن ولا ظلم على أحد منهم، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الضحايا‏.‏

باب الشَّرِكَةِ فِى الطَّعَامِ وَغَيْرِها

وَيُذْكَرُ أَنَّ رَجُلاً سَاوَمَ شَيْئًا، فَغَمَزَهُ آخَرُ، فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ لَهُ شَرِكَةً‏.‏

- فيه‏:‏ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ، جَدّ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ إِلَى السُّوقِ، فَيَشْتَرِى الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فَيَقُولاَنِ لَهُ‏:‏ أَشْرِكْنَا، فَإِنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام قَدْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ فَيَشْرَكُهُمْ، فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِىَ، فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْمَنْزِلِ‏.‏

الشركة بيع من البيوع، فتجوز فى الطعام وفى كل ما يجوز تملكه عند جميع العلماء، وإنما اختلفوا فى الشركة بالطعام، وإن تساووا فى الكيل والقيمة، وسواء كان الطعام نوعًا واحدًا أو أنواعًا مختلفة، وهو قول الشافعى، وخالف ابن القاسم مالكًا، فقال‏:‏ تجوز الشركة بالحنطة إذا اشتركا على الكيل ولم يشتركا على القيمة، وكانتا فى الجودة سواء‏.‏

وأجاز الشركة بالطعام الكوفيون وأبو ثور، وقال الأوزاعى‏:‏ تجوز الشركة بالقمح والزيت؛ لأنهما يختلطان جميعًا، ولا يتميز أحدهما من الآخر‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ إنما كره مالك الشركة بالطعام، وإن تساوى فى الكيل والجودة؛ لأنه يختلف فى الصفة والقيمة، ولا تجوز الشركة إلا على الاستواء فى القيمة، فاحتيج فى الطعام أن يستوى أمره فى الشركة فى الكيل والقيمة، وكان الاستواء فى ذلك لا يكاد أن يجتمع فيه فكرهه، وليس الطعام مثل الدنانير والدراهم التى هى على الاستواء عند الناس‏.‏

وكان الأبهرى يقول‏:‏ قول ابن القاسم أشبه؛ لأن الشركة تشبه البيع‏.‏

قال‏:‏ وكما جاز بيع الطعام بالطعام إذا استويا فى الكيل، وإن اختلفا فى القيمة، فكذلك تجوز الشركة فيه‏.‏

واختلفوا فى الشركة بالعروض، فقال مالك، وابن أبى ليلى‏:‏ هو جائز‏.‏

وقال الثورى، والكوفيون، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏:‏ لا يجوز ذلك‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا تجوز الشركة فى كل ما يرجع فى حال المفاضلة إلى القيمة، إلا أن يبيع نصف عرضه بنصف عرض الآخر ويتقايضا‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ إنما لم تجز الشركة بالعروض؛ لأن رءوس أموالهم مجهولة، وغير جائز عقد الشركة على مجهول‏.‏

وحجة مالك فى إجازة ذلك أن الشركة إنما وقعت على قيمة العرض الذى أخرجه كل واحد منهما، فلم يكن رأس مال مجهولاً، وأما إجازة ابن عمر الشركة للذى غمز صاحبه، فهو قول مالك‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ من قول مالك فى الذى يشترى الشىء للتجارة، فيقف به الرجل لا يقول له شيئًا، حتى إذا فرغ من الشراء استشركه، فرأى مالك أن الشركة له لازمة وأن يقضى بها؛ لأنه أرفق بالناس من إفساد بعضهم على بعض، ووجه ذلك أن المشترى قد انتفع بترك الزياد عليه، فوجبت الشركة بينهما بسبب انتفاعه بذلك‏.‏

وكذلك إذا غمزه وسكت، فسكوته رضًا بالشركة؛ لأنه كان يمكنه أن يقول له‏:‏ لا أشركك، فيزيد عليه، فلما سكت كان ذلك رضًا‏.‏

قال عبد الملك بن حبيب‏:‏ وذلك لتجار تلك السلعة خاصة كان مشتريها فى الأول من أهل تلك التجارة أو غيرهم‏.‏

قال‏:‏ وكل ما اشتراه لغير تجارة، فسأله رجل أن يشركه وهو يشترى، فلا تلزمه الشركة، وإن كان الذى استشركه من أهل التجارة‏.‏

والقول قول المشترى مع يمينه أن شراءه ذلك لغير التجارة، قال‏:‏ وما اشتراه الرجل من تجارته فى حانوته أو فى بيته فوقف به ناس من أهل تجارته فاستشركوه، فإن الشركة لا تلزمه، وليس مثل اشترائه ذلك فى غير حانوته ولا بيته‏.‏

باب الشَّرِكَةِ فِى الرَّقِيقِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِى مَمْلُوكٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ قَدْرَ ثَمَنِهِ يُقَامُ قِيمَةَ عَدْلٍ، وَيُعْطَى شُرَكَاؤُهُ حِصَّتَهُمْ‏)‏‏.‏

الشركة بيع من البيوع تجوز فى العبيد وفى كل شىء، وكل ما جاز أن يملكه رجل جاز أن يملكه رجلان شراء أو هبة أو غيره، إلا أن الشريك إذا وطئ جارية من مال الشركة، فإنهما يتقاومانها وتصير لأحدهما بثمن قد عرفه؛ لأنه لا تحل الشركة فى الفروج ولا إعارتها، ويدرأ عنه الحد بالشبهة‏.‏

باب الاشْتِرَاكِ فِى الْهَدْىِ وَالْبُدْنِ وَإِذَا أَشْرَكَ الرَّجُلُ رجلاً فِى هَدْيِهِ بَعْدَ مَا أَهْدَى

- فيه‏:‏ جَابِرٍ، وابْن عَبَّاس، قَالاَ‏:‏ قَدِمَ النَّبِىُّ عليه السَّلام وَأَصْحَابُهُ صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ لاَ يَخْلِطُهُمْ شَىْءٌ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا، فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، إِلَى قَوله‏:‏ وَجَاءَ عَلِىُّ، فَقَالَ‏:‏ لَبَّيْكَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَه النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ وَإشْرَكَهُ فِى الْهَدْى‏.‏

قال المهلب‏:‏ لا يصح فى هذا الحديث ما ترجم به من الاشراك فى الهدى بعد ما أهدى؛ لأنه ما كان بعد تقليد الهدى وإشعاره، فإنما هو شريك فى الفضيلة؛ لأنه لا تجوز هبة الهدى ولا بيعه بعد تقليده، وما كان قبل تقليده فيمكن الشركة فى رقابه وهبته لمن يهدى عنه‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذكر البخارى فى المغازى، عن بريدة الأسلمى، أن النبى عليه السَّلام كان بعث عليًّا إلى اليمن قبل حجة الوادع ليقبض الخمس، وقال غير جابر‏:‏ فقدم على من سعايته، فقال له، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏بما أهللت يا على‏؟‏‏)‏، قال‏:‏ بما أهل به النبى عليه السَّلام قال‏:‏ ‏(‏فاهد وامكث حرامًا كما أنت‏)‏، قال‏:‏ فأهدى له على هديًا‏.‏

فهذا تفسير قوله‏:‏ ‏(‏وأشركه فى الهدى‏)‏، أنه الهدى الذى أهداه على عن النبى، وجعل له ثوابه، فيحتمل أن يفرده، عَلَيْهِ السَّلام بثواب ذلك الهدى كله، فهو شريك له فى هديه؛ لأنه أهداه عنه متطوعًا من ماله، ويحتمل أن يشركه فى ثواب هدى واحد يكون بينهما، كما ضحى النبى عنه وعن أهل بيته بكبش، وعمن لم يضح من أمته بكبش وأشركهم فى ثوابه‏.‏

ويجوز الاشتراك فى هدى التطوع، وقد تقدم اختلاف العلماء فى الاشتراك فى الهدى فى كتاب الحج فى باب قوله‏:‏ ‏(‏فمن تمتع بالعمرة إلى الحج‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، فأغنى عن إعادته‏.‏

كِتَاب الرَّهون

الرَّهْنِ فِى الْحَضَرِ

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ الآية - فيه أَنَس‏:‏ رَهَنَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

الرهن جائز فى الحضر والسفر، وبه قال جميع الفقهاء، وحكى عن مجاهد أنه قال‏:‏ لا يحل الرهن إلا فى السفر‏.‏

وبه قال أهل الظاهر، واحتجوا بقوله‏:‏ ‏(‏وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏، قالوا‏:‏ فأباح الرهن بشرط أن يكون فى السفر‏.‏

وحجة الجماعة أن الله لم يذكر السفر على أن يكون شرطًا فى الرهن، وإنما ذكره لأجل أن الغالب فيه أن الكاتب يعدم فى السفر، وقد يوجد الكاتب فى السفر، ويجوز فيه الرهن، فكذلك يجب أن يجوز الرهن فى الحضر، وإن كان الكاتب حاضرًا؛ لأن الرهن إنما هو على معنى الاستيثاق، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ الآية، وكل ما جاز أن يستوثق به فى الحضر كالكفيل والضمين‏.‏

وقد رهن النبى عليه السَّلام درعه بالمدينة عند يهودى فى شعير أخذه لأهله، والمدينة حضرته ووطنه، فسقط قولهم‏.‏

باب مَنْ رَهَنَ دِرْعَهُ

- فيه الأَعْمَشُ، قَالَ‏:‏ تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ وَالْقَبِيلَ فِى السَّلَفِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ حَدَّثَنِى الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام اشْتَرَى مِنْ يَهُودِىٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَ دِرْعَهُ‏.‏

وترجم له الرهن عند اليهود وغيرهم، وإنما أراد النخعى أن يستدل بأن الرهن لما جاز فى الثمن بالسنة المجتمع عليها، جاز فى المثمن وهو السلم‏.‏

وبيان ذلك أنه لما جاز أن يشترى الرجل طعامًا أو عرضًا بثمن إلى أجل، ويرهن فى الثمن رهنًا، كذلك يجوز إذا دفع عينًا سلمًا فى عرض طعام أو غيره أن يأخذ فى الشىء المسلم فيه رهنًا، وكل ما جاز تملكه وبيعه جاز رهنه‏.‏

وفى رهن النبى عليه السَّلام درعه عند يهودى من الفقه دليل أن متاجرة أهل الكتاب والمشركين جائزة، إلا أن أهل الحرب لا يجوز أن يباع منهم السلاح، ولا كل ما يتقوون به على أهل الإسلام، ولا أن يرهن ذلك عندهم، وكان هذا اليهودى الذى رهنه النبى عليه السَّلام درعه من أهل الذمة، وممن لا تخشى منه غائلة ولا مكيدة للإسلام، ولم يكن حربيًا‏.‏

باب رَهْنِ السِّلاَحِ

- فيه جَابِر‏:‏ قَالَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏؟‏ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ‏:‏ أَنَا، فَأَتَاهُ فَقَالَ‏:‏ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ، فَقَالَ‏:‏ ارْهَنُونِى نِسَاءَكُمْ، قَالُوا‏:‏ كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا، وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَارْهَنُونِى أَبْنَاءَكُمْ، قَالُوا‏:‏ كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا، فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ، فَيُقَالُ‏:‏ رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ، هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللأَمَةَ، يَعْنِى السِّلاَحَ، فَوَعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوُا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ كان كعب بن الأشرف من طى، وكانت أمه من بنى النضير، وكان يعادى النبى ويحرض المشركين عليه، فلما أصيب المشركون ببدر خرج إلى مكة يحرض على رسول الله، ثم رجع إلى المدينة يشبب بنساء المسلمين حتى أذاهم، فقال النبى عليه السَّلام عند ذلك‏:‏ ‏(‏من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ ولم تكن بنو النضير ذمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن كعب بن الأشرف فى عهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ والدليل على ذلك إعلان النبى عليه السَّلام بأنه آذى الله ورسوله على رءوس الناس، وكيف يكون فى عهد من يشكو منه الأذى، بل كان ممتنعًا وقومه فى حصنه، وكان المسلمون يقنعون منهم بالقعود عن حربهم والتجيش عليهم، وإنما كانت بينهم مسالمة وموافقة للجيرة‏.‏

فكان النبى صلى الله عليه وسلم يمسك عنهم لإمساكهم عنه من غير عهد ولا عقد، ولو كان لكعب عهد لنقضه بالأذى، ولوجب حربه، ولكان بقوله، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله‏؟‏‏)‏، نابذًا إليه عهده، ومسقطًا بذلك ذمته، ولو كان من أهل العهد والذمة لوجب حربه واغتياله بكل وجه‏.‏

فمن لام النبى عليه السَّلام على ذلك، فقد كذب الله فى قوله‏:‏ ‏(‏فتول عنهم فما أنت بملوم‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 54‏]‏، ووضف رسوله صلى الله عليه وسلم بما لا يحل له مما نزهه الله عنه، والله ولى الانتقام منه‏.‏

وقد تقدم هذا المعنى فى باب الفتك فى الحرب فى كتاب الجهاد، ولم يجز أن يرهن عند كعب بن الأشرف سلاح ولا شىء مما يتقوى به على أذى المسلمين، وليس قولهم له‏:‏ نرهنك اللأمة، مما يدل على جواز رهن الحربيين السلاح، وإنما كان ذلك من معاريض الكلام المباحة فى الحرب وغيره‏.‏

باب الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ

وَقَالَ إِبْرَاهِيمَ‏:‏ تُرْكَبُ الضَّالَّةُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا، وَتُحْلَبُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا، وَالرَّهْنُ مِثْلُهُ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ، وَيُشْرَبُ لَبَنُ الدَّرِّ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا‏)‏‏.‏

- وَقَالَ مَرةٌ، عَن النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏الظهر يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِى يَشْرَبُ وَيَرْكَبُ النَّفَقَةُ‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ اختلف العلماء فيمن له منفعة الرهن من ركوب الظهر ولبن الدر وغير ذلك، فقالت طائفة‏:‏ كل ذلك للراهن ليس للمرتهن أن ينتفع بشىء من ذلك‏.‏

وروى ذلك عن الشعبى، وابن سيرين، وقال النخعى‏:‏ كانوا يكرهون ذلك، وهو قول الشافعى، فإن للراهن أن يركب الرهن ويشرب لبنه بحق نفقته عليه، ويأوى فى الليل إلى المرتهن‏.‏

ورخصت طائفة أن ينتفع المرتهن من الرهن بالركوب والحلب دون سائر الأشياء على لفظ الحديث أن الرهن محلوب ومركوب، هذا قول أحمد وإسحاق‏.‏

وقال أبو ثور‏:‏ إن كان الراهن لا ينفق عليه وتركه فى يد المرتهن فأنفق عليه، فله ركوبه واستخدامه على ظاهر الحديث‏.‏

وذكر غير ابن المنذر، عن الأوزاعى، والليث مثله، ولا يجوز عند مالك، والكوفيين للراهن الانتفاع بالرهن وركوبه بعلفه وغلته لربه‏.‏

واحتج الطحاوى لأصحابه، وقال‏:‏ أجمع العلماء على أن نفقة الرهن على الراهن لا على المرتهن، وأنه ليس للمرتهن استعمال الرهن، قال‏:‏ والحديث مجمل لم يبين فيه الذى يركب ويشرب، فمن أين جاز للمخالف أن يجعله للراهن دون المرتهن، ولا يجوز حمله على أحدهما إلا بدليل‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد روى هشيم، عن زكريا، عن الشعبى، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السَّلام قال‏:‏ ‏(‏إذا كانت الدابة مرهونة، فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذى يشرب نفقتها وتركب‏)‏‏.‏

فدل هذا الحديث أن المعنى بالركوب وشرب اللبن فى الحديث الأول هو المرتهن لا الراهن، فجعل ذلك له، وجعلت النفقة عليه بدلاً مما ينقص منه، وكان هذا، والله أعلم، وقت كون الربا مباحًا، ولم ينه حينئذ عن قرض جر منفعة، ولا عن أخذ الشىء بالشىء إن كانا غير متساويين، ثم حرم الربا بعد ذلك، وحرم كل قرض جر منفعة، ونهى عن أخذ الشىء بالشىء إن كانا غير متساويين، وحرمت أشكال ذلك كلها، وردت الأشياء المأخوذة إلى أبدالها المساوية لها، وحرم بيع اللبن فى الضرع، ودخل فى ذلك النهى عن النفقة التى ملك بها المنفق لبنًا فى الضرع، وتلك النفقة غير موقوف على مقدارها، واللبن كذلك أيضًا‏.‏

فارتفع بنسخ الربا أن تجب النفقة على المرتهن بالمنافع التى تجب له عوضًا منها، وباللبن الذى يحتلبه فيشربه‏.‏

ويقال لمن جوز للراهن استعمال الرهن‏:‏ أيجوز للراهن أن يرهن دابة هو راكبها‏؟‏ فلا يجد بدًا من أن يقول‏:‏ لا، فيقال له‏:‏ فإذا كان الرهن لا يجوز إلا أن يكون محلاً بينه وبين المرتهن فيقبضه ويصير فى يده دون الراهن، كما وصف الله الراهن بقوله‏:‏ ‏(‏فرهان مقبوضة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏، فقد ثبت أن دوام القبض فى الرهن لابد منه إذا كان الرهن إنما هو وثيقة فى يد المرتهن بالدين‏.‏

وقد أجمعت الأُمَّةُ أن الأَمَة الرهن لا يجوز للراهن أن يطأها، فكذلك لا تجوز له خدمتها، وقد حدثنا فهد، قال‏:‏ نا أبو نعيم، حدثنا الحسن بن صالح، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، قال‏:‏ لا ينتفع من الرهن بشىء، فهذا الشعبى روى الحديث وأفتى بخلافه، ولا يجوز عليه ذلك إلا وهو عنده منسوخ‏.‏

وقال ابن القاسم عن مالك‏:‏ إذا خلى المرتهن بين الراهن وبين الرهن يركبه أو يعيره أو يسكنه لم يكن رهنًا، فإذا أجره المرتهن بإذن الراهن أو أعاره لم يخرج من الرهن، والأجرة لرب الرهن، ولا يكون الكراء رهينة إلا أن يشترط المرتهن، فإن اشترط فى البيع أن يرتهن ويأخذ حقه من الكراء، فإن مالكًا كرهه، وإن كان البيع وقع بهذا الشرط إلى أجل معلوم، فإن ذلك عند مالك يجوز فى الدور والأرضين، وكرهه فى الدواب والثياب، إذ لا يدرى كيف يرجع إليه، وكرهه فى القرض؛ لأنه يصير سلفًا جر منفعة‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ إذا أجر المرتهن الرهن بإذن الراهن أو أجره الراهن بإذن المرتهن، فقد خرج من الرهن‏.‏

وحكم الضالة مخالف لحكم الرهن عند مالك وغيره، قال مالك‏:‏ إذا أنفق على الضالة من الإبل والدواب، فله أن يرجع بذلك على صاحبها إذا جاء، وإن أنفقها بغير أمر السلطان، وله أن يحبس ذلك بالنفقة، إذ لا يقدر على صاحبها، ولابد من النفقة عليها، والمرتهن يأخذ راهنه بنفقته، فإن غاب رفع ذلك إلى الإمام‏.‏

وقال أبو حنيفة والشافعى‏:‏ إن أنفق بغير أمر القاضى، فهو متطوع، وإن أنفق بأمر القاضى، فهو دين على صاحبها‏.‏

باب إِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ وغيرهما فَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِى وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ

- فيه ابْن عَبَّاس‏:‏ أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ‏.‏

- وفيه عَبْدُ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالاً وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ‏)‏، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏ الآية، ثُمَّ إِنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ، قَالَ‏:‏ فِىَّ نزلت، كَانَتْ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِى بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى النّبِى عليه السَّلام فَقَالَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ‏)‏، قُلْتُ‏:‏ إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلاَ يُبَالِى، فَقَالَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث، فأنزل الله الآية‏.‏

إذا اختلف الراهن والمرتهن فى مقدار الدين والرهن قائم، فقال الراهن‏:‏ رهنتك بعشرة دنانير‏.‏

وقال المرتهن‏:‏ بعشرين دينارًا، فقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏:‏ القول قول الراهن مع يمينه، وقالوا‏:‏ المرتهن مدع، فإذا لم تكن له بينة حلف الراهن؛ لأنه مدعى عليه على ظاهر السنة فى الدعوى لو لم يكن ثم رهن، ولا يلزم الراهن من الدين إلا ما أقر به، أو قامت عليه بينة‏.‏

وفيه قول ثان‏:‏ وهو أن القول قول المرتهن، ما لم يجاوز ثمنه قيمة الرهن، روى هذا عن الحسن وقتادة، ونحوه قال مالك، قال‏:‏ القول قول المرتهن مع يمينه ما بينه وبين قيمة الرهن؛ لأن الرهن كشاهد للمرتهن إذا أجازه‏.‏

وإن ادعى أكثر من قيمة الرهن لم يصدق فى الزيادة، ويكون القول قول الراهن مع يمينه، ويبرأ من الزيادة على قيمته ويؤدى قيمته، وحجته أن الراهن مدع لاستحقاق أخذ الرهن وإخراجه عن يد المرتهن، والمرتهن منكر أن يكون الراهن مستحقًا لذلك بما ذكره، فاليمين على المرتهن؛ لأن الراهن معترف بكونه رهنًا فى يد المرتهن، والرهن وثيقة بالحق وشاهد له، كالشهادة أنها وثيقة بالحق ومصدقة له فأشبه اليد، فصار القول قول من فى يده الرهن إلى مقدار قيمته‏.‏

وإنما كان القول قول الراهن فيما زاد على قيمة الرهن؛ لأن المرتهن مدع جملة ما يذكره من الحق، فعليه أن يحلف على جملة ذلك، ثم يكون له مما حلف عليه قدر ما يشهد الرهن له من قيمته، فيكون كالشاهد واليمين؛ لأن المرتهن لا شهادة له فيما يذكره فيما زاد على قيمة الرهن، فصار مدعيًا لذلك، والراهن مدعى عليه، فكان حكم ذلك حكم المدعى والمدعى عليه، فإما بينة المدعى، أو يمين المدعى عليه‏.‏

كِتَاب الْعِتْقِ

ما جاء فِى الْعِتْقِ وَفَضْلِهِ

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 13- 15‏]‏‏.‏

- فيه أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذا الحديث فضل العتق، وأنه من أرفع الأعمال، ومما ينجى الله به من النار، وفيه أن المجازاة قد تكون من جنس الأعمال، فجوزى المعتق للعبد بالعتق من النار، وإن كانت صدقة تصدق عليه فى الآخرة، وهذا الحديث يبين أن تقويم باقى العبد على من أعتق شقصًا منه إنما هو لاستكمال عتق نفسه من النار، وصارت حرمة العتق تتعدى إلى الأموال لفضل النجاة به من النار، وهذا أولى من قول من قال‏:‏ إنما ألزم المعتق باقيه ليكمل حرمة العبد، وتتم شهادته وحدوده، وهو قول لا دليل عليه‏.‏

باب أَىُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ‏؟‏

- فيه‏:‏ أَبُو ذَرّ، قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِى سَبِيلِهِ‏)‏، قُلْتُ‏:‏ فَأَىُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَغْلاَهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا‏)‏، قُلْتُ‏:‏ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏تُعِينُ ضَائعًا، أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ‏)‏، قَالَ‏:‏ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما قرن الجهاد فى سبيل الله بالإيمان به؛ لأنه كان عليهم أن يجاهدوا فى سبيل الله حتى تكون كلمة الله هى العليا، وحتى يفشو الإسلام وينتشر، فكان الجهاد ذلك الوقت أفضل من كل عمل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها‏)‏، فمعنى ذلك أن من اشتراها بكثير الثمن، فإنما فعل ذلك لنفاستها عنده، ومن أعتق رقبة نفيسة عنده وهو مغتبط بها، فلم يعتقها إلا لوجه الله، وهذا الحديث فى معنى قوله‏:‏ ‏(‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 92‏]‏، وكان لابن عمر جارية يحبها فأعتقها لهذه الآية، ثم ابتغتها نفسه، فأراد أن يتزوجها فمنعه بنوه، فكان بعد ذلك يقرب بنيها من غيره لمكانها من قلبه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏تعين ضائعًا‏)‏، أى تعين فقيرًا، ‏(‏أو تصنع لأخرق‏)‏، يعنى عاملاً لا يستطيع عمل ما يحاوله، والخرق لا يكون إلا فى اليدين، وهو الذى لا يحسن الصناعات‏.‏

باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الْعَتَاقَةِ فِى الْكُسُوفِ وَالآيَاتِ

- فيه‏:‏ أَسْمَاء، أَمَرَ النَّبِىُّ عليه السَّلام بِالْعَتَاقَةِ فِى كُسُوفِ الشَّمْسِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما أمر بالعتاقة فى الكسوف؛ لأن بالعتق يستحق العتق من النار، والكسوف آية من آيات الله، قال الله‏:‏ ‏(‏وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏، فلذلك صلى عليه السَّلام وأطال الصلاة من أجل الخوف الذى توعد الله عليه فى القرآن، وأمر بالعتاقة، وقد تقدم هذا الباب فى صلاة الكسوف‏.‏

باب إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَمَةً بَيْنَ شُّرَكَاءِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمر، قَالَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُعْتَقُ‏)‏‏.‏

- وقال مرة‏:‏ ‏(‏قُوِّمَ عَلَيْهِ بقِيمَةَ العَدْل، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَأعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلاَ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ كان ابن عمر يفتى فى العبد والأمة تكون بين الشركاء بذلك‏.‏

اختلف الفقهاء فى العبد إذا كان بين رجلين، فأعتق أحدهما نصيبه، فقالت طائفة‏:‏ لا يجب عليه الضمان بقيمة نصيب شريكه لعتاقه إلا أن يكون موسرًا على ظاهر حديث ابن عمر، قالوا‏:‏ وإنما فى حديث ابن عمر وجوب الضمان على الموسر خاصة دون المعسر، يدل على ذلك قوله، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏وإلا فقد عتق منه ما عتق‏)‏، هذا قول ابن أبى ليلى، ومالك، والثورى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى‏.‏

وقال زفر‏:‏ يضمن قيمة نصيب شريكه موسرًا كان أو معسرًا، ويخرج العبد كله حرًا، وقال‏:‏ العتق من الشريك الموسر جناية على نصيب شريكه يجب بها عليه ضمان قيمته فى ماله، ومن جنى على مال رجل وهو موسر أو معسر، وجب عليه ضمان ما أتلف بجنايته، ولم يفترق حكمه إن كان موسرًا أو معسرًا فى وجوب الضمان عليه‏.‏

وهذا قول مخالف للحديث، فلا وجه له؛ لأن قوله، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏وإلا فقد عتق منه ما عتق‏)‏، دليل أن ما بقى من العبد لم يدخله عتاق، فهو رقيق للذى لم يعتق على حاله، ولو فقد العتق فى الكل إذا كان معسرًا يرجع الشريك إلى ذمة غير ملية، فلا يحصل له عوض، وفى هذا إضاعة المال وإتلاف له، وقد نهى عن ذلك‏.‏

واختلفوا فى معنى هذا الحديث، فقال مالك فى المشهور عنه‏:‏ للشريك أن يعتق نصيبه قبل التقويم كما أعتق شريكه أولاً، ويكون الولاء بينهما، ولا يعتق نصيب الشريك إلا بعد التقويم وأداء القيمة‏.‏

وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعى‏:‏ إن كان المعتق الأول موسرًا أعتق جميع العبد حينئذ وكان حرًا، ولا سبيل للشريك على العبد، وإنما له قيمة نصيبه على شريكه كما لو قتله، قالوا‏:‏ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أعتق شقصًا له فى عبد قوم عليه قيمة عدل ثم يعتق إن كان موسرًا‏)‏‏.‏

فأمر بالتقويم للذى يكون فى الشىء المتلف، فعلم أنه إذا أعتق نصيبه فقد أتلف نصيب شريكه بالعتق، فلزمته القيمة، وقد روى مثله عن مالك‏.‏

والحجة لمالك فى مشهور مذهبه أن نصيب كل واحد من الشريكين غير تابع لنصيب صاحبه، والدليل على ذلك أنه لو باع أحدهما نصيبه لم يصر نصيب شريكه مبيعًا، فكذلك لا يصير نصيب شريكه حرًا بعتق نصيبه‏.‏

وأيضًا فإنه لو أعتق نصيب شريكه ابتداء لم يعتق، وكذلك يجب إذا ابتدأ عتق نصيب شريكه أن ينعتق، وينعتق نصيبه بعتق نصيب شريكه، فلما لم يكن نصيبه هاهنا تبعًا ولا سرى إليه العتق، كذلك لا يكون نصيب شريكه تبعًا لنصيبه ولا يسرى إليه العتق، واحتج مالك فى المدونة، فقال‏:‏ ألا ترى أنه لو مات العبد قبل التقويم لم يلزم المعتق الأول شىء‏.‏

باب إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبًا فِى عَبْدٍ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِىَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ نَحْوِ الْكِتَابَةِ

- فيه أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏مَنْ أَعْتَقَ شَقِصًا فِى عَبْدٍ، فَخَلاَصُهُ عَلَيْهِ فِى مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَ قُوِّمَ عَلَيْهِ، وَاسْتُسْعِىَ بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

رواه جرير بن حازم، وسعيد، عن قتادة، وَتَابَعَهُ حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ، وَأَبَانُ، وَمُوسَى ابْنُ خَلَفٍ، عَنْ قَتَادَةَ، واخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ‏.‏

اختلف العلماء فى العبد بين الرجلين يعتق أحدهما نصيبه وهو معسر، فذهب الكوفيون، والثورى، والأوزاعى إلى أنه إذا كان المعتق معسرًا، سعى العبد فى حصة شريكه حتى يؤدى قيمتها، واحتجوا بهذا الحديث‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لا يعتق منه إلا ما عتق، ولا يجوز أن يستسعى العبد؛ لأنه لم يتعد ولا جنى ما يجب عليه ضمانه ولا يؤخذ أحد بجناية غيره، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد ابن حنبل‏.‏

وقوله عليه السَّلام فى حديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏وإلا فقد عتق منه ما عتق‏)‏، يبطل الاستسعاء؛ لأنه لم يقل‏:‏ ويستسعى العبد، وقد روى همام، وشعبة، وهشام الدستوائى هذا الحديث عن قتادة، ولم يذكر فيه السعاية، حدثنا المهلب، قال‏:‏ حدثنا أبو محمد الأصيلى، قال‏:‏ حدثنا أبو الحسن الدارقطنى، قال‏:‏ حدثنا أبو بكر النيسابورى، قال‏:‏ حدثنا على بن الحسن بن أبى عيسى الهلالى، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبى هريرة، أن رجلاً أعتق شقصًا له فى مملوك، فأجاز النبى صلى الله عليه وسلم عتقه وغرمه بقيمة ثمنه‏.‏

قال قتادة‏:‏ فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه‏.‏

قال الدارقطنى‏:‏ ما أحسن ما رواه همام وضبطه فصل قول قتادة‏.‏

قال الأصيلى وابن القصار‏:‏ ومن أسقط السعاية أولى ممن ذكرها؛ لما رواه عمران بن الحصين، عن النبى عليه السَّلام فى الذى أعتق الستة الأعبد، فأسهم النبى عليه السَّلام بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، ولم يلزمهم الاستسعاء‏.‏

وعلى مذهب أبى حنيفة كان يجب أن يعتق من كل واحد جزءًا ويلزمه السعاية فى قيمة الباقى منه، والنبى عليه السَّلام أقرع بينهم فأعتق اثنين منهم، وهذا مخالف لما يقوله أبو حنيفة‏.‏

باب الْخَطَأ وَالنِّسْيَانِ فِى الْعَتَاقَةِ وَالطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ وَلاَ عَتَاقَةَ إِلاَ لِوَجْهِ اللَّهِ

قَالَ النَّبىُّ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى‏)‏، وَلاَ نِيَّةَ لِلنَّاسِى وَالْمُخْطِئِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِى عَنْ أُمَّتِى مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

الخطأ والنسيان إنما يكون فى الحنث فى الأيمان بعتق كانت اليمين أو بطلاق أو غيره، وقد اختلف العلماء فى الناسى فى يمينه، هل يلزمه حنث أم لا‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ لا يلزم الناسى حنث، وهو قول عطاء بن أبى رباح، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال إسحاق، وإليه ذهب البخارى فى هذا الباب‏.‏

وقال الشعبى وطاوس‏:‏ من أخطأ فى الطلاق فله نيته‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ يحنث فى الطلاق خاصة‏.‏

والحجة لقول عطاء‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏، وهو ظاهر أحاديث هذا الباب‏.‏

وذهب مالك، والكوفيون إلى أنه يحنث فى الخطأ والنسيان، وهو الأشهر عن الشافعى، وروى ذلك عن أصحاب ابن مسعود، وقد تقدم فى كتاب الأيمان والنذور اختلاف أهل العلم فيمن حنث ناسيًا فى يمينه، فأغنى عن إعادته‏.‏

ومن الخطأ فى العتق والطلاق ما اختلف فيه ابن القاسم وأشهب أنه إذا دعا عبدًا يقال له‏:‏ ناصح، فأجابه مرزوق، فقال له‏:‏ أنت حر، وهو يظن أنه ناصح، وشهد عليه بذلك، فقال ابن القاسم‏:‏ يعتقان جميعًا، يعتق مرزوق لمواجهته بالعتق، ويعتق ناصح بما نواه، وأما فيما بينه وبين الله، فلا يعتق إلا ناصح‏.‏

قال ابن القاسم‏:‏ فإن لم يكن عليه بينة لم يعتق إلا الذى نوى‏.‏

وقال أشهب‏:‏ يعتق مرزوق فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين العباد، ولا يعتق ناصح؛ لأنه دعاه ليعتقه فأعتق غيره وهو يظنه هو، فرزق هذا وحرم هذا‏.‏

وروى مطرف، وابن الماجشون فيمن أراد أن يطلق امرأته واحدة فأخطأ لسانه فطلقها البتة، طلقت عليه البتة، ولا ينفعه ما أراد، ولا نية له فى ذلك‏.‏

وهو قول مالك، قال‏:‏ يؤخذ الناس بلفظهم فى الطلاق، ولا تنفعهم نياتهم‏.‏

وقال أصبغ، عن ابن القاسم‏:‏ وعلى هذا القول يكون تأويل قوله، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏الأعمال بالنيات‏)‏، على الخصوص كأنه قال‏:‏ الأعمال بالنيات إلا فى العتق والطلاق، فإن الأعمال فيهما بالأقوال والنيات، فمن ادعى الخطأ بلسانه فيهما، فإثم ذلك ساقط عنه، وهو مأخوذ بما نطق به لسانه حياطة للفروج وتحصينًا لها من الإقدام على وطئها بالشك، واحتياطًا من الرجوع فى عتق الرقاب المنجية من النار التى أمر النبى عليه السَّلام للمعتق شقصًا منها بتمام عتق جميع الرقبة وتخليصها من الرق، وروى نافع، وزياد بن عبد الرحمن، عن مالك، أنه تنفعه نيته، ولا تطلق إلا واحدة‏.‏

وقد روى عن الحسن البصرى فى رجل كان يكلم امرأته فى شىء فغلط، فقال‏:‏ أنت طالق، قال‏:‏ ليس عليه شىء فيما بينه وبين ربه، والمعمول عليه من مذهب مالك المشهور عند أصحابه القول الأول‏.‏

باب إِذَا قَالَ للعبد‏:‏ هُوَ لِلَّهِ وَنَوَى الْعِتْقَ وَالإِشْهَادِ فِى الْعِتْقِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ لَمَّا أَقْبَلَ يُرِيدُ الإِسْلاَمَ وَمَعَهُ غُلاَمُهُ، ضَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ مَعَ النَّبِىِّ عليه السَّلام فَقَالَ له النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَذَا غُلاَمُكَ قَدْ أَتَاكَ‏)‏، فَقَالَ‏:‏ أَمَا إِنِّى أُشْهِدُكَ أَنَّهُ حُرٌّ‏.‏

وقال مرة‏:‏ أبقى لى غلام‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، فقال‏:‏ ‏(‏هو لوجه الله‏)‏، وقال مرة‏:‏ أما إنى أشهدك أنه لله‏.‏

قال المهلب‏:‏ لا خلاف بين العلماء فيما علمت أنه إذا قال لعبده‏:‏ هو حر، أو هو لوجه الله، أو هو لله ونوى به العتق أنه يلزمه العتق، وكل ما يفهم به عن المتكلم أنه أراد به العتق لزمه ونفذ عليه، وأما الإشهاد فى العتق فهو من حقوق المعتق، ويتم العتق عند الله، وجميع ما يراد به وجهه بالقول والنية، وإن لم يكن ثم إشهاد، وقد قالت امرأة عمران‏:‏ ‏(‏رب إنى نذرت لك ما فى بطنى محررًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 35‏]‏، أى محررًا لخدمة المسجد،‏)‏ فتقبلها ربها بقبول حسن‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏، فتم ما نذرته بدعوتها الله، وقبل الله ذلك منها، فكان ما فى بطنها موقوفًا لما نذرته له من خدمة المسجد، ولم تشهد غير الله تعالى‏.‏

وفى هذا الحديث من الفقه العتق عند بلوغ الأمل والنجاة مما يخاف من الفتن والمحن، كما فعل أبو هريرة حين نجاه الله من دار الكفر، ومن ضلاله فى الليل عن الطريق، وأعتق الغلام حين جمعه الله عليه وهداه إلى الإسلام‏.‏

باب أُمِّ الْوَلَدِ

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّهَا‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كَانَ عُتْبَةَ بْنَ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ أَنْ يَقْبِضَ إِلَيْهِ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، قَالَ عُتْبَةُ‏:‏ إِنَّهُ ابْنِى، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْفَتْحِ، أَخَذَ سَعْدٌ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى النّبِىّ صلى الله عليه وسلم، وَأَقْبَلَ مَعَهُ بِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا ابْنُ أَخِى عَهِدَ إِلَىَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَخِى ابْنُ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أبِى، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَإِذَا هُوَ أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ‏)‏، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ‏)‏، مِمَّا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، وَكَانَتْ سَوْدَةُ زَوْجَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

أشكل معنى قصة عتبة على العلماء، وتأولوا فيها ضروبًا من التأويل لخروجها عن الأصول المجمع عليها، فمن ذلك أن الأمة متفقة أنه لا يدعى أحد عن أحد إلا بتوكيل من المدعى له، ولم يذكر فى هذا الحديث توكيل عتبة لأخيه سعد على ما ادعاه عنه، ومنها ادعاء عبد بن زمعة على أبيه ولدًا بقوله‏:‏ أخى وابن وليدة أبى، ولد على فراشه، ولم يأت ببينة تشهد بإقرار أبيه، ولا يجوز أن يقبل دعواه على أبيه؛ لأنه لا يستلحق غير الأب؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكسب كل نفس إلا عليها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ ذهب قوم إلى أن الأمة إذا وطئها مولاها فقد لزمه كل ولد تجىء به بعد ذلك، ادعاه أو لم يدعه، هذا قول مالك والشافعى، واحتجوا بهذا الحديث؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏هو لك يا عبد بن زمعة‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏الولد للفراش وللعاهر الحجر‏)‏، فألحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بزمعة لا لدعوة ابنه؛ لأن دعوة الابن للنسب لغيره من أبيه غير مقبولة، ولكن لأن أمه كانت فراشًا لزمعة بوطئه إياها‏.‏

واحتجوا فى ذلك بما رواه مالك، عن نافع، عن صفية بنت أبى عبيد، أن عمر بن الخطاب قال‏:‏ ما بال رجال يطئون ولائدهم ثم يدعونهن يخرجن، لا تأتينى وليدة يقر سيدها أن قد ألم بها إلا ألحقت به ولدها، فأرسلوهن بعد أو أمسكوهن‏.‏

وفى حديث آخر‏:‏ ما بال رجال يطئون ولائدهم، ثم يعزلونهن‏.‏

وخالفهم فى ذلك آخرون، فقالوا‏:‏ ما جاءت به هذه الأمة من ولد، فلا يلزم مولاها إلا أن يقربه، فإن مات قبل أن يقربه لم يلزمه‏.‏

وهو قول الكوفيين‏.‏

واحتجوا على ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال لعبد بن زمعة‏:‏ ‏(‏هو لك يا عبد بن زمعة‏)‏، ولم يقل‏:‏ هو أخوك، فيجوز أن يكون أراد بقوله‏:‏ ‏(‏هو لك‏)‏، أى هو مملوك لك بحق مالك عليه من اليد، ولم يحكم فى نسبه بشىء، والدليل على ذلك أنه قد أمر سودة بالاحتجاب منه، فلو جعله ابن زمعة لما حجب منه بنت زمعة؛ لأنه عَلَيْهِ السَّلام لا يأمر بقطع الأرحام، وإنما كان يأمر بصلتها ومن صلتها التزاور، وكيف يجوز أن يأمرها أن تحتجب من أخيها، وهو يأذن لعائشة أن تأذن لعمها من الرضاعة بالدخول عليها، ولكن وجه ذلك أنه لم يكن حكم فيه بشىء غير اليد التى جعله بها لعبد ولسائر ورثة زمعة دون سعد‏.‏

واحتجوا أيضًا بما رواه شعبة، عن عمارة بن أبى حفصة، عن عكرمة، قال‏:‏ كان ابن عباس يأتى جارية له فحملت، فقال‏:‏ ليس منى، إنى أتيتها إتيانًا لا أريد به الولد‏.‏

وروى الثورى، عن أبى الزناد، عن خارجة بن زيد، أن أباه كان يعزل عن جارية فارسية فأتت بحمل، فأنكره وقال‏:‏ إنى لم أكن أريد ولدك، وإنما استطبت نفسك، فجلدها وأعتقها‏.‏

وقول ابن عباس وزيد خلاف ما روى عن عمر بن الخطاب فى ذلك أهل المقالة الأولى‏.‏

واختلفوا فى معنى قوله، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏هو لك يا عبد بن زمعة‏)‏، فقالت طائفة‏:‏ إنما قال‏:‏ ‏(‏هو لك‏)‏، أى هو أخوك كما ادعيت قضاء منه فى ذلك بعلمه؛ لأن زمعة بن قيس كان صهره عليه السَّلام وسودة بنت زمعة كانت زوجته، فيمكن أن يكون علم أن تلك الأمة كان يمسها زمعة، فألحق ولدها به لما علمه من فراش زمعة لا أنه قضى بذلك لاستلحاق عبد بن زمعة له‏.‏

وقال الطحاوى فى قوله‏:‏ ‏(‏هو لك‏)‏، أى هو لك بيدك عليه لا أنك تملكه، ولكن تمنع منه كل من سواك، كما قال فى اللقطة‏:‏ هى لك بيدك عليها، تدفع غيرك عنها حتى يجىء صاحبها ليس على أنها ملك لك، ولما كان عبد بن زمعة له شريك فيما ادعاه وهى أخته سودة، ولم يعلم منها تصديق له، ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد بن زمعة ما أقر به على نفسه، ولم يجعل ذلك حجة على أخته، إذ لم تصدقه، ولم يجعله أخاها وأمرها بالحجاب منه‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ هو لك ملك لا أنه قضى له بنسبه‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فعنه جوابان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه كان يدعى عبد بن زمعة أنه حر وأنه أخوه ولد على فراش أبيه، فكيف يقضى له بالملك‏؟‏ ولو كان مملوكًا لعتق بهذا القول‏.‏

والجواب الثانى‏:‏ أنه لو قضى له بالملك لم يقل‏:‏ الولد للفراش؛ لأنه المملوك لا يلحق بالفراش، ولكان يقول‏:‏ هو ملك لك‏.‏

وقال المزنى فى تأويل هذا الحديث‏:‏ يحتمل أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم أجاب فيه على المسألة فأعلمهم بالحكم أن هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنا، لا أنه قبل قول سعد على أخيه عتبة، ولا على زمعة قول ابنه عبد بن زمعة أنه أخوه؛ لأنه كل واحد منهما أخبر عن غيره، وقد أجمع المسلمون أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره، فحكم بذلك ليعرفهم كيف الحكم فى مثله إذا نزل، وقد حكى الله مثل ذلك فى قصة داود إذ دخلوا عليه ففزع منهم‏:‏ ‏(‏فقالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 22‏]‏، ولم يكونا خصمين، ولا كان لواحد منهما تسع وتسعون نعجة، ولكنهم كلموه ليعرف ما أرادوا، فيحتمل أن يكون عليه السَّلام حكم فى هذه القصة بنحو ذلك، ويحتمل أن تكون سودة جهلت ما علم أخوها عبد بن زمعة فسكتت، فلما لم يصح أنه أخ لعدم البينة بذلك أو الإقرار ممن يلزم إقراره، وزاده بعدًا شبهه بعتبة، أمرها بالاحتجاب منه، فكان جوابه عليه السَّلام على السؤال لا على تحقيقه زنا عتبة بقول أخيه، ولا بالولد أنه لزمعة بقول ابنه، بل قال‏:‏ ‏(‏الولد للفراش على قولك يا عبد بن زمعة لا على ما قال سعد‏)‏، ثم أخبر بالذى يكون إذا ثبت مثل هذا‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏احتجبى منه يا سودة‏)‏، دليل على أنه جعل للزنا حكمًا، فحرم به رؤية ذلك المستلحق لأخته سودة، وقال لها‏:‏ ‏(‏احتجبى منه‏)‏، فمنعها من أخيها فى الحكم؛ لأنه ليس بأخيها فى غير الحكم؛ لأنه من زنا فى الباطن إذا كان شبيهًا بعتبة فجعلوه كأنه أجنبى لا يراها بحكم الزنا، وجعلوه أخاها بالفراش، وزعموا أن ما حرمه الحلال فالزنا أشد تحريمًا له‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ رؤية ابن زمعة لسودة مباح فى الحكم، ولكنه كرهه للشبهة وأمرها بالتنزه عنه اختيارًا‏.‏

وقال بعض أصحابه‏:‏ إنه يجوز للرجل أن يمنع زوجته من رؤية أخيها، وذهبوا إلى أنه أخوها على كل حال؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالولد للفراش وألحق ابن أمة زمعة بفراش زمعة، قالوا‏:‏ وما حكم به فهو الحق‏.‏

وفى قوله‏:‏ ‏(‏الولد للفراش‏)‏، من الفقه إلحاق الولد بصاحب الفراش فى الحرة والأمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وللعاهر الحجر‏)‏، أى لا شىء للزانى فى الولد إذا ادعاه صاحب الفراش، وهذه كلمة تقولها العرب‏.‏

باب بَيْعِ الْمُدَبَّرِ

- فيه‏:‏ جَابِرَ، قَالَ‏:‏ أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَدَعَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ فَبَاعَهُ‏.‏

قَالَ جَابِرٌ‏:‏ فَمَاتَ الْغُلاَمُ عَامَ أَوَّلَ‏.‏

اختلف العلماء فى بيع المدبر، فقالت طائفة‏:‏ يجوز بيعه ويرجع به صاحبه متى شاء، هذا قول مجاهد وطاوس، وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتجوا بهذا الحديث، قالوا‏:‏ وهو مذهب عائشة، وروى عنها أنها باعت مدبرة لها سحرتها‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يجوز بيع المدبر، روى ذلك عن زيد بن ثابت وابن عمر، وهو قول الشعبى، وسعيد بن المسيب، وابن أبى ليلى، والنخعى، وبه قال مالك، والثورى، والليث، والكوفيون، والأوزاعى، قالوا‏:‏ لا يباع المدبر فى دين ولا غيره، فى الحياة ولا بعد الموت، والحجة لهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أوفوا بالعقود‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏، والتدبير عقد طاعة يلزم الإنسان الوفاء به، فلا سبيل إلى حله والرجوع فيه؛ لأنه عقد حرية بصيغة آتية لا محالة، قالوا‏:‏ ولا حجة فى حديث جابر لمن أجاز بيع المدبر؛ لأن فى الحديث أن سيده كان عليه دين فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمانمائة وأعطاه، وقال له‏:‏ ‏(‏اقض دينك‏)‏، فثبت بهذا أن بيعه إنما كان من أجل الدين الذى عليه، فأما إذا لم يكن عليه دين قبل تدبيره فلا سبيل إلى بيعه‏.‏

وأيضًا فإن سيده كان سفيهًا، ولذلك باعه النبى عليه السَّلام وبيع المدبر عند من أجازه لا يفتقر صاحبه فيه إلى بيع الإمام، وهذا الحديث عند العلماء أصل فى أن أفعال السفيه مردودة، فلا حجة لهم فيه‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن التدبير وصية يجوز الرجوع فيه، قيل‏:‏ ليس كونه وصية يجوز الرجوع فيه؛ لأن العتق فى المرض لا يجوز الرجوع فيه، وإن كان يخرج من الثلث، فكذلك المدبر‏.‏

وجمهور العلماء متفقون أن ولد المدبرة الذين تلدهم بعد التدبير بمنزلتها يعتقون بموت سيدها، فإذا كان التدبير يسرى إلى الولد، فلأن يلزم فى الأم أولى‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفيه أن للإمام القيم بأمور المسلمين أن يحملهم فى أموالهم على ما فيه صلاحهم، ويرد من أفعالهم ما فيه مضرة لهم‏.‏

باب بَيْعِ الْوَلاَءِ وَهِبَتِهِ

- فيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ، نَهَى النّبِىّ عليه السَّلام عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ، وَعَنْ هِبَتِهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ، فَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلاَءَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَعْتِقِيهَا، فَإِنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ‏)‏، فَأَعْتَقْتُهَا، فَدَعَاهَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَخَيَّرَهَا مِنْ زَوْجِهَا‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

الفقهاء بالعراق والحجاز مجمعون على أنه لا يجوز بيع الولاء ولا هبته‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وفيه قول ثان‏:‏ روى أن ميمونة بنت الحارث وهبت ولاء مواليها بنى العباس، وولاؤهم اليوم لهم، وأن عروة ابتاع ولاء طهمان لورثة مصعب بن الزبير، وذكر عبد الرزاق عن عطاء أنه يجوز للسيد أن يأذن لعبده أن يوالى من شاء، وهذا هو هبة الولاء‏.‏

وسأذكر هذه المسألة فى باب إثم من تبرأ من مواليه فى كتاب الفرائض إن شاء الله‏.‏

وقد روى إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الولاء لحمة كالنسب‏)‏، وقد أجمع العلماء أنه لا يجوز تحويل النسب، وقد نسخ الله المواريث بالتبنى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم فى الدين ومواليكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقد لعن النبى صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه وانتمى إلى غير مواليه، فكان حكم الولاء كحكم النسب فى ذلك، فكما لا يجوز بيع النسب ولا هبته، فكذلك لا يجوز بيع الولاء ولا هبته، ولا نقله وتحويله، وإنه للمعتق كما قال عليه السَّلام وهذا ينفى أن يكون الولاء الذى يسلم على يديه وللملتقط، وسيأتى اختلاف العلماء فى ذلك فى كتاب الفرائض، إن شاء الله‏.‏

باب عِتْقِ الْمُشْرِكِ

- فيه‏:‏ عروة، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَعْتَقَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، وَأَعْتَقَ مِائَةَ رَقَبَةٍ، قَالَ‏:‏ وَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَصْنَعُهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا، يَعْنِى أَتَبَرَّرُ بِهَا، قَالَ‏:‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ‏)‏‏.‏

أما عتق المشرك على وجه التطوع، فلا خلاف بين العلماء فى جوازه، وهذا الحديث حجة فى ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جعل عتق المائة رقبة فى الجاهلية من أفعال الخير المجازى بها عند الله المتقرب بها إليه، ودل ذلك على أن مسلمًا لو أعتق كافرًا لكان مأجورًا على عتقه؛ لأن حكيمًا إنما جعل له الأجر على ما فعل فى جاهليته بالإسلام الذى صار إليه، فلم يكن المسلم الذى فعل مثل فعله فى الإسلام بدون حال حكيم، بل هو أولى بالأجر‏.‏

واختلف فى عتق المشرك فى كفارة اليمين وكفارة الظهار، فأجازه قوم، وقالوا‏:‏ لما أطلق اللفظ فى عتق رقبة الظهار وكفارة اليمين، ولم يشترط فيها الإيمان، جاز فى ذلك المشرك‏.‏

ومنع ذلك آخرون، وقالوا‏:‏ لا يجوز فى شىء من الكفارات إلا عتق رقبة مؤمنة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى فى كفارة القتل‏:‏ ‏(‏فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏، فقيد الرقبة بالإيمان، قالوا‏:‏ فوجب حمل المطلق على المقيد إذا كان فى معناه، وهذا فى معناه؛ لأن الكفارة تجمع ذلك، واحتجوا على ذلك بأن الله أمر بالإشهاد عند التبايع، فقال‏:‏ ‏(‏وأشهدوا إذا تبايعتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏، ثم قيد ذلك بالعدالة فى موضع آخر بقوله‏:‏ ‏(‏وأشهدوا ذوى عدل منكم‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏، و‏)‏ ممن ترضون من الشهداء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏، فلم يجز من الشهداء إلا العدول، فوجب حمل المطلق على المقيد‏.‏

باب إِذَا أُسِرَ أَخُو الرَّجُلِ أَوْ عَمُّهُ هَلْ يُفَادَى إِذَا كَانَ مُشْرِكًا‏؟‏

وَقَالَ أَنَسٌ‏:‏ قَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ فَادَيْتُ نَفْسِى، وَفَادَيْتُ عَقِيلاً، وَكَانَ عَلِىٌّ لَهُ نَصِيبٌ فِى تِلْكَ الْغَنِيمَةِ الَّتِى أَصَابَ مِنْ أَخِيهِ عَقِيلٍ، وَمن عَمِّهِ العَبَّاس‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ رِجَالاً مِنَ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا‏:‏ ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لابْنِ أُخْتِنَا العَبَّاس فِدَاهُ، فَقَالَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لاَ تَدَعُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ أسر العباس وعقيل مع من أسر يوم بدر، فأخذ فيهم النبى صلى الله عليه وسلم برأى أبى بكر الصديق فى استحيائهم، وكره استعبادهم، وأباح لهم أن يفادوا أنفسهم بالمال من ذلة العبودية، فقطع كل واحد على نفسه بعدد من المال، وقطع العباس بفدائه، وفدى ابن أخيه عقيل، فأراد الأنصار أن يتركوا فداء العباس إكرامًا للنبى صلى الله عليه وسلم لمكان عمومته له، وللرحم التى تمسهم به فى الخئولة، فقال لهم‏:‏ ‏(‏لا تدعوا منه درهمًا‏)‏، أراد أن يوهنهم بالغرم ويضعفهم، وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الجهاد فى باب فداء المشركين‏.‏

وإنما ذكر البخارى هذا فى كتاب العتق، فأنه استنبط منه أن العم وابن العم لا يعتقان على من ملكهما من ذوى رحمهما؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قد ملك من عمه العباس ومن ابن عمه عقيل بالغنيمة التى له فيها نصيب، وكذلك ملك على بن أبى طالب من عمه العباس، ومن أخيه عقيل المشركين فى ذلك الوقت بنصيبه من الغنيمة، ولم يعتقا عليه، وهذا حجة على من قال من السلف‏:‏ أنه من ملك ذا رحم محرم أنه يعتق عليه، وهو قول الكوفيين‏.‏

وفيه حجة للشافعى فى قوله‏:‏ إنه لا يعتق الأخ على من ملكه؛ لأن عقيلاً كان أخا على ابن أبى طالب، ولم يعتق عليه بما ملك من نصيبه منه‏.‏

وأما تلخيص مذاهب العلماء فيمن يعتق على الرجل إذا ملكه، فذهب مالك أنه لا يعتق عليه إلا أهل الفرائض فى كتاب الله، وهم‏:‏ الولد ذكورهم وإناثهم، وولد الولد وإن سفلوا، وأبواه، وأجداده، وجداته من قبل الأب والأم وإن بعدوا، وإخوته لأبوين، أو لأب، أو لأم، وبه قال الشافعى، إلا فى الإخوة فإنهم لا يعتقون على ما تقدم فى هذا الباب‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ من ملك ذا رحم محرم أنه يعتق عليه‏.‏

وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعن عطاء، والشعبى، والحسن، والحكم، والزهرى، وحجة هذا القول ما رواه ضمرة، عن الثورى، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏من ملك ذا رحم محرم فهو حر‏)‏، ورواه الحسن، عن سمرة، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ قد تكلم الناس فى هذين الحديثين، فقالوا‏:‏ لم يرو حديث ابن عمر عن الثورى غير ضمرة، وحديث الحسن، عن سمرة، وقد تكلم فيهما وليس منهما ثابت‏.‏

والحجة لمالك أنه لا يجوز ملك الأخ وأنه يعتق على من ملكه قوله تعالى حكاية عن موسى‏:‏ ‏(‏رب إنى لا أملك إلا نفسى وأخى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 25‏]‏، وكما لا يجوز أن يسترق نفسه، كذلك لا يجوز أن يسترق أخاه وحجة الجميع فى أنه لا يجوز ملك الأبوين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏، واسترقاقهما أعظم من قول‏:‏ أف، والأجداد داخلون فى اسم الآباء، ولم يجز ملك الولد لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدًا إن كل من فى السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 92، 93‏]‏، فلا يجوز أن يستعبد الابن بهذا النص‏.‏

باب مَنْ مَلَكَ مِنَ الْعَرَبِ رَقِيقًا

فَوَهَبَ وَبَاعَ وَجَامَعَ وَفَدَى وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 75‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ مَعِى مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَىَّ أَصْدَقُهُ، وَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا الْمَالَ، وَإِمَّا السَّبْىَ‏)‏، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ، وَكَانَ النَّبِىُّ عليه السَّلام انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلاَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا‏:‏ فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ النَّبِىُّ عليه السَّلام فِى النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّى رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِىءُ اللَّهُ عَلَيْنَا، فَلْيَفْعَلْ‏)‏، فَقَالَ النَّاسُ‏:‏ طَبْنَا لَكَ، فَقَالَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّا لاَ نَدْرِى مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ‏)‏، فَرَجَعَ النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى النَّبِىِّ عليه السَّلام فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا‏.‏

وقال أَنَسٌ‏:‏ قَالَ عَبَّاسٌ‏:‏ فَادَيْتُ نَفْسِى، وَفَادَيْتُ عَقِيلاً‏.‏

- وفيه‏:‏ ابن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام أَغَارَ عَلَى بَنِى الْمُصْطَلِقِ، وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ خَرَجْنَا مَعَ النّبِىّ عليه السَّلام فِى غَزْوَةِ بَنِى الْمُصْطَلِقِ، فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْىِ الْعَرَبِ، فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ، فَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ، وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا عَلَيْكُمْ أَلاَ تَفْعَلُوا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَ وَهِىَ كَائِنَةٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ مَا زِلْتُ أُحِبُّ بَنِى تَمِيمٍ مُنْذُ ثَلاَثٍ، سَمِعْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِيهِمْ‏:‏ ‏(‏هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِى عَلَى الدَّجَّالِ‏)‏، قَالَ‏:‏ وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا، وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ‏)‏، فَقَالَ‏:‏ أَعْتِقِيهَا، فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ‏.‏

فى هذه الآثار أن النبى عليه السَّلام سبى العرب واسترقهم من هوازن وبنى المصطلق وغيرهم، وقال عليه السَّلام لعائشة فى السبية التميمية‏:‏ ‏(‏أعتقيها، فإنها من ولد إسماعيل‏)‏، فصح بهذا كله جواز استرقاق العرب وتملكهم كسائر فرق العجم، وأجمع العلماء أن من وطئ أمة له بملك يمينه أن ولده منها أحرار، عربية كانت أو عجمية‏.‏

واختلفوا إذا تزوج العربى أمة، هل يكون ولده منها رقيقًا تبعًا لها أم لا‏؟‏ فقال مالك، والكوفيون، والليث، والشافعى‏:‏ إن الولد مملوك لسيد الأمة تبع لها، والحجة لهم أحاديث هذا الباب فى سبى النبى عليه السَّلام العرب واسترقاقهم‏.‏

وقال الثورى، والأوزاعى، وأبو ثور، وإسحاق‏:‏ يلزم سيد الأمة أن يقومه على أبيه، ويلزم أباه أداء القيمة إليه، ولا يسترق‏.‏

وهذا قول سعيد بن المسيب، واحتجوا بما روى عن عمر أنه قال لابن عباس‏:‏ لا يسترق ولد عربى من أمة وفيه عبدان‏.‏

قال الليث‏:‏ أما ما روى عن عمر بن الخطاب فى فداء ولد العربى من الولائد ست فرائض، إنما كان من أولاد الجاهلية، وفيما أقر به الرجل من نكاح الإماء، فأما اليوم فمن تزوج أمة، وهو يعلم أنها أمة فولده عبد لسيدها، عربيًا كان أو فارسيًا أو غيره‏.‏

ومن حجة من جعلهم رقيقًا أن النبى صلى الله عليه وسلم لما سوى بين العرب والعجم فى الدماء، فقال‏:‏ ‏(‏المؤمنون تتكافأ دماؤهم‏)‏، وأجمع العرب على القول به، وجب إذا اختلفوا فيما دون الدماء أن يكون حكم ذلك حكم الدماء‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقول النبى صلى الله عليه وسلم لعائشة‏:‏ ‏(‏أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل‏)‏، يدل على جواز تملك العرب، إلا أن عتقهم أفضل لمراعاة الرحم التى تجمعهم، وكذلك فعل عمر بن الخطاب فى خلافته بمن ملك رقيقًا من العرب الذين ارتدوا فى خلافة أبى بكر، قال‏:‏ إن الله قد أوسع عليكم فى سبى أهل الكتاب من غير العرب، وإن من العار أن يملك الرجل بنت ابن عمه، فأجابوه إلى ما حض عليه، وهذا كله على وجه الندب لا على أنه لا يجوز تملكهم‏.‏

قال غيره‏:‏ وفى حديث سبى هوازن وبنى المصطلق، وقول أبى سعيد‏:‏ واشتهينا النساء، دليل على أن الصحابة أطلقوا على وطء ما وقع فى سهمانهم من السبى، وهذا لا يكون إلا بعد الاستبراء بإجماع العلماء، وهذا يدل على أن السبى يقطع العصمة بين الزوجين الكافرين‏.‏

واختلف السلف فى حكم وطء الوثنيات والمجوسيات إذا سبين، فأجاز ذلك سعيد ابن المسيب، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وحجتهم أن النبى صلى الله عليه وسلم أباح وطء سبايا العرب إذا حاضت الحائض أو وضعت الحامل منهن‏.‏

وهذا القول شذوذ عند العلماء لم يلتفت إليه أحد، واتفق أئمة الفتوى بالأمصار وعامة العلماء على أنه لا يجوز وطء الوثنيات لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏، وإنما أباح الله تعالى وطء نساء أهل الكتاب خاصة بقوله‏:‏ ‏(‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏، فإنما أطلق النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه على وطء سبايا العرب بعد إسلامهن؛ لأن سبى هوازن كان سنة ثمان، وسبى بنى المصطلق سنة ست، وسورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة، فقد كانوا علموا قوله‏:‏ ‏(‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏، وتقرر عندهم أنه لا يجوز وطء الوثنيات البتة حتى يسلمن‏.‏

وروى عبد الرزاق، قال‏:‏ حدثنا جعفر بن سليمان، قال‏:‏ حدثنا يونس بن عبيد، أنه سمع الحسن يقول‏:‏ كنا نغزو مع أصحاب النبى عليه السَّلام فإذا أصاب أحدهم جارية من الفىء، فأراد أن يصيبها أمرها فاغتسلت، ثم علمها الإسلام وأمرها بالصلاة، واستبرأها بحيضة ثم أصابها‏.‏

قال‏:‏ وسمعت الثورى يقول‏:‏ أما السنة، فلا يقع عليها حتى تصلى إذا استبرأها، وعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏، يقتضى تحريم وطء المجوسيات بالتزويج وبملك اليمين، ألا ترى أن النبى عليه السَّلام سن أن تؤخذ الجزية من المجوس على ألا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، وعلى هذا أئمة الفتوى وعامة العلماء‏.‏

وأما قولهم‏:‏ وأحببنا الفداء وأردنا أن نعزل، فقد استدل به جماعة من العلماء فى منع بيع أم الولد، وقالوا‏:‏ معلوم أن الحمل منهن يمنع الفداء ويذهب بالثمن، والعلماء مجمعون على أنه لا يجوز بيعها وهى حامل، فإذا وضعت فهى على الأصل الذى اتفقوا عليه من منع البيع، ولا يجوز الانتقال عنه إلا باتفاق آخر، وأئمة الفتوى بالأمصار متفقون على أنه لا يجوز بيع أم الولد، وإنما خالف ذلك أهل الظاهر، وبشر المريسى، وهو شذوذ لا يلتفت إليه‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وقد روى عكرمة، عن ابن عباس، أن النبى عليه السَّلام قال لما ولدت أم إبراهيم‏:‏ ‏(‏أعتقها ولدها‏)‏، وقالت عائشة‏:‏ ما خلف النبى عبدًا ولا أمة، وقد كان خلف مارية، فعلم أنها عتقت بموته، ولم تكن أمة، وقد قال، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لا نورث ما تركنا صدقة‏)‏، ولم ينقل أن مارية كانت صدقة، فعلم أنها عتقت بموته ولم تكن مما تركه‏.‏

قال‏:‏ وأما قوله، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏ما عليكم ألا تفعلوا‏)‏، فقد احتج بهذا من أباح العزل ومن كرهه‏.‏

واختلف السلف فى ذلك قديمًا، وإباحة العزل أظهر فى الحديث، روى مالك، عن سعد بن أبى وقاص، وأبى أيوب الأنصارى، وزيد بن ثابت، وابن عباس أنهم كانوا يعزلون، وروى ذلك أيضًا عن ابن مسعود وجابر، وذكر مالك أيضًا عن ابن عمر أنه كره العزل، وروى كراهيته عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وقد روى عن على بن أبى طالب القولان جميعًا‏.‏

واحتج من كره العزل بما رواه أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة، قالت‏:‏ وحدثتنى خزامة بنت وهب الأسدية، قالت‏:‏ ذكر عند النبى صلى الله عليه وسلم العزل، فقال‏:‏ ‏(‏ذلك الوأد الخفى‏)‏‏.‏

واتفق أئمة الفتوى على جواز العزل عن الحرة إذا أذنت فيه لزوجها، واختلفوا فى الأمة الزوجة، فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ الإذن فى ذلك إلى مولاها‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ الإذن فى ذلك إليها‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ يعزل عنها دون إذنها ودون إذن مولاها‏.‏

واحتج من أباح العزل بما روى عن الليث وغيره عن يزيد بن أبى حبيب، عن معمر ابن أبى حبيب، عن عبيد الله بن عدى بن الخيار، قال‏:‏ تذاكر أصحاب النبى عليه السَّلام عند عمر العزل، فاختلفوا فيه، فقال عمر‏:‏ قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم‏؟‏ فقال على بن أبى طالب‏:‏ لا يكون موءودة حتى يمر بالتارات السبع‏:‏ ‏(‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 12‏]‏ إلى آخر الآية‏.‏

وروى سفيان، عن الأعمش، عن أبى الوداك، عن ابن عباس، أنه سُئل عن العزل، فذكر مثل كلام على سواء‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فهذا على، وابن عباس، قد اجتمعا على ما ذكرنا ووافقهما عمر، ومن كان بحضرتهما من أصحاب الرسول، فدل على أن العزل غير مكروه‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقوله، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏ما عليكم ألا تفعلوا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى آخر الحديث، فيه دليل أن العزل غير مكروه؛ لأنه عليه السَّلام لما أخبروه أنهم يفعلون ذلك لم ينكره عليهم، ولا نهاهم عنه، وقال‏:‏ ‏(‏ما عليكم ألا تفعلوا فإنما هو القدر‏)‏، أى فإن الله إذا قدر يكون الولد، لم يمنعه عزل، ووصل الله من الماء إلى الرحم شيئًا وإن قل يكون منه الولد، وإن لم يقدر كونه لم يكن بالإفضاء‏.‏

فأعلمهم أن الإفضاء لا يكون منه ولد إلا بقدر الله، وأن العزل لا يمنع الولد إذا سبق فى علم الله أنه كائن‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ لو أن النطفة التى أخذ الله ميثاقها كانت فى صخرة لنفخ فيها الروح‏.‏

قال‏:‏ وفى قوله، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏ما من نسمة كائنة إلا وهى كائنة‏)‏، إثبات العلم، وأن العباد يجرون فى علم الله وقدره، والقدر هو سر الله وعلمه لا يدرك بحجة ولا بجدال، وأنه لا يكون فى ملكه إلا ما شاء تعالى، ولا يقوم شىء إلا بإذنه، له الخلق والأمر‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقول أبى هريرة‏:‏ ما زلت أحب بنى تميم؛ لأنهم أشد الأمة على الدجال، وقد روى عنهم أنهم كانوا يختارون ما يخرجون فى الصدقات من أفضل ما عندهم، فأعجب النبى صلى الله عليه وسلم بفراهيتها، فقال هذا القول على معنى المبالغة فى نصحهم لله ولرسوله فى جودة الاختيار للصدقة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضرب الله مثلاً عبدًا مملوكًا لا يقدر على شىء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 75‏]‏، فقد تأول بعض الناس فى هذه الآية أن العبد لا يملك، وسأذكر الاختلاف فى ملك العبد فى باب العبد راع فى مال سيده بعد هذا، وأذكر تأويل هذه الآية فيه، إن شاء الله، وقول ابن عمر‏:‏ وهم غارون، يعنى على غرة، أى غفلة‏.‏

باب فَضْلِ مَنْ أَدَّبَ جَارِيَتَهُ وَعَلَّمَهَا

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ‏:‏ قَالَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَعَلَمهَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، كَانَ لَهُ أَجْرَانِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أجر التأديب والتعليم، وأجر التزويج لله تعالى، وأن الله قد ضاعف له أجره بالنكاح والتعليم، وجعله كمثل أجر العتق، وفيه الحض على العتق، وعلى نكاح المعتق، وعلى التواضع وترك الغلو فى أمور الدنيا، وأخذ القصد والبلغة منها، وأن من تواضع لله فى منكحه وهو يقدر على نكاح أهل الشرف والحسب والمال، فإن ذلك مما يرجى عليه جزيل الأجر وجسيم الثواب‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏الْعَبِيدُ إِخْوَانُكُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ‏)‏

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا‏}‏ إلى‏:‏ ‏{‏وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو ذَرّ، كانت عَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ إِنِّى سَابَبْتُ رَجُلاً، فَشَكَانِى إِلَى النَّبِىِّ عليه السَّلام فَقَالَ لِىَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ‏؟‏‏)‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه الحض على كسوة المملوك وإطعامه بالسواء مثل طعام المالك وكسوته، وليس ذلك على الإيجاب عند العلماء، وإنما على المالك أن يكسوا ما يستر العورة ويدفع الحر والبرد، ويطعم ما يسد الجوعة ما لم يكن فيه ضرر على المملوك؛ لأن المولى إذا كان ممن يأكل الفراريج والفراخ ويأكل خبز السميد والأطعمة الرقيقة، وكانت كسوته الشطوى والنيسابورى، لم يكن عليه فى مذهب أحد من أهل العلم أن يطعم رقيقه ولا يكسوهم من ذلك؛ لأن هذه الأطعمة والكسوة التى ذكرناها لم يكن أحد من أصحاب النبى عليه السَّلام الذى خاطبهم بما خاطبهم به يأكل مثلها، إنما كان الغالب من قوتهم بالمدينة التمر والشعير‏.‏

وقد روى أبو هريرة، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق‏)‏، فإن زاد على ما فرض عليه من قوته وكسوته بالمعروف كان متفضلاً متطوعًا‏.‏

وقال ربيعة بن أبى عبد الرحمن‏:‏ لو أن رجلاً عمل لنفسه خبيصًا فأكله دون خادمه، ما كان بذلك بأس‏.‏

وكان يرى أنه إذا أطعم خادمه من الخبز الذى أكل منه، فقد أطعمه مما يأكل منه؛ لأن من عند العرب للتبعيض، ولو قال‏:‏ أطعموهم من كل ما تأكلون، لوجب حينئذ إطعامهم من الخبيص ومن كل شىء، وكذلك فى اللباس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولا تكلفوهم ما يغلبهم‏)‏، هو كقول الله‏:‏ ‏(‏لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، ولما لم يكلفنا الله فوق طاقتنا ونحن عبيده، وجب أن نمتثل حكمه وطريقته فى عبيدنا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فإن كلفتموهم فأعينوهم‏)‏، فيه جواز تكليف ما فيه المشقة، فإن كانت غالبة وجب العون عليها، وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تستخدموا رقيقكم بالليل والنهار، فإن النهار لكم، والليل لهم‏)‏‏.‏

وروى معمر، عن أيوب، عن أبى قلابة، يرفعه إلى سلمان، أن رجلاً أتاه وهو يعجن، فقال‏:‏ أين الخادم‏؟‏ قال‏:‏ أرسلته فى حاجة، فلم يكن ليجمع عليه شيئين أن يرسله ولا يكفيه عمله‏.‏

وفيه الوصاة من النبى عليه السَّلام بما ملكت أيماننا؛ لأن الله وصى بهم فى كتابه‏.‏

وفيه أنه لا حد على من قذف عبدًا، ولا عقوبة، ولا تعزير، وقد قال بعض العلماء‏:‏ إن كان العبد رجلاً صالحًا، فأرى أن يعاقب القاذف له والمؤذى‏.‏

باب الْعَبْدِ إِذَا أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ سَيِّدَهُ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْعَبْدُ إِذَا نَصَحَ سَيِّدَهُ، وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ النَّاصِحِ أَجْرَانِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْحَجُّ، وَبِرُّ أُمِّى، لأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ لما كان للعبد فى عبادة ربه أجر، وكان له فى طاعة سيده ونصحه له أجر أيضًا، لكن لا يقال‏:‏ إن الأجرين متساويان؛ لأن طاعة الله أوجب من طاعة المخلوقين، وفيه حض المملوك على نصح سيده؛ لأنه راع فى ماله، وهو مسئول عما استرعى، فبان أن أثر نصحه طاعة الله، فلهذا تبين فضل أجره فى طاعة الله على طاعة مولاه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏والذى نفسى بيده، لولا الجهاد فى سبيل الله والحج وبر أمى، لأحببت أن أموت وأنا مملوك‏)‏، هو من قول أبى هريرة، وفيه دليل أنه ليس على العبد جهاد ولا حج فى حال العبودية، إلا أن ينزل ببلد عدو، فيلزم الجهاد كل مسلم يكون بتلك البلد، فيجب على العبد منه بقدر طاقته ووسعه، وأما الحج، فإنما لم يجب عليه من أجل أنه غير مالك لنفسه، وليس له أن يخرج عن تصرف سيده وما به الحاجة إليه، وإنما خاطب الله من استطاع إليه سبيلاً، والعبد غير مستطيع، وأما بر الوالدين، فيلزم العبد منه من خفض الجناح، ولين القول والتذلل ما يلزم المسلمين، وأما السعى عليهما بالنفقة والكسوة فلا يلزمه؛ لأنه نفقته وكسوته على مولاه، وكسبه لمولاه، ولا تصرف له فى شىء منه إلا بإذنه‏.‏

باب كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ

وَقَول الرجل‏:‏ عَبْدِى وَأَمَتِى وَقول اللَّهُ‏:‏ ‏(‏وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إن يكونوا فقراء‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏عَبْدًا مَمْلُوكًا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 75‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ ابن عُمر، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏الْعَبْدُ إِذَا نَصَحَ لسَيِّدَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏الْمَمْلُوكُ الَّذِى يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيُؤَدِّى إِلَى سَيِّدِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ‏:‏ أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، وَاسْقِ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ‏:‏ سَيِّدِى وَمَوْلاَىَ، وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ‏:‏ عَبْدِى وَأَمَتِى، وَلْيَقُلْ‏:‏ فَتَاىَ وَفَتَاتِى وَغُلاَمِى‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنَ الْعَبْدِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وقال أيضًا عَنْ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدَ، قَالَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا زَنَتِ الأَمَةُ فَاجْلِدُوهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

التطاول على الرقيق مكروه؛ لأن الكل عبيد الله، وهو لطيف بعباده رفيق بهم، فينبغى للسادة امتثال ذلك فى عبيدهم، ومن ملكهم الله إياهم وأوجب عليهم حسن الملك ولين الجانب، كما يجب على العبيد حسن الطاعة والنصح لساداتهم، والانقياد لهم وترك مخالفتهم، وقد جاء فى الحديث‏:‏ ‏(‏الله الله وما ملكت أيمانكم، فلو شاء الله لملكهم إياكم‏)‏‏.‏

وما جاء فى هذا الباب من النهى عن التسمية، فإن ذلك من باب التواضع، وجائز أن يقول الرجل‏:‏ عبدى، وأمتى؛ لأن القرآن قد نطق بذلك فى قوله‏:‏ ‏{‏والصالحين من عبادكم وإمائكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏، وإنما نهى عليه السَّلام عن ذلك على سبيل التطاول والغلظة لا على سبيل التحريم، واتباع ما حض عليه النبى صلى الله عليه وسلم أولى وأجل، فإن فى ذلك تواضعًا لله تعالى؛ لأن قول الرجل‏:‏ عبدى، وأمتى، يشترك فيهما الخالق والمخلوق، فيقال‏:‏ عبد الله، وأمة الله، فكره ذلك لاشتراك اللفظ‏.‏

وأما الرب، فهى كلمة وإن كانت مشتركة، وتقع على غير الخالق للشىء، كقولهم‏:‏ رب الدار، ورب الدابة، يراد صاحبهما، فإنها لفظة تختص بالله فى الأغلب والأكثر، فوجب أن لا تستعمل فى المخلوقين، لنفى الشركة بينهم وبين الله، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال لأحد غير الله‏:‏ إله، ولا رحمن، ويجوز أن يقال له‏:‏ رحيم؛ لاختصاص الله بهذين الاسمين، فكذلك الرب لا يقال لغير الله‏.‏

باب إِذَا أَتَاهُ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَليُنَاوِلْهُ لُقْمَةً، أَوْ لُقْمَتَيْنِ، أَوْ أُكْلَةً، أَوْ أُكْلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِىَ عِلاَجَهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا الحديث يفسر حديث أبى ذر فى التسوية بين العبد وبين سيده فى المطعم والكسوة، أنه على سبيل الحض والندب والتفضل، لا على سبيل الإيجاب على السيد؛ لأنه لم يسوه فى هذا الحديث بسيده فى المؤاكلة، وجعل إلى السيد الخيار فى إجلاسه للأكل معه أو تركه، ثم حضه على إن لم يأكل معه أن ينيله من ذلك الطعام الذى تعب فيه وشمه‏.‏

باب إِذَا ضَرَبَ الْعَبْدَ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏إِذَا قاتَلَ أحدُكم فلْيَجْتَنبِ الوَجهَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ تمام الحديث‏:‏ ‏(‏فإن الله خلق آدم على صورته‏)‏‏.‏

وروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه مر على رجل يضرب عبده فى وجهه لطمًا، ويقول‏:‏ قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فقال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏إذا ضرب أحدكم عبده، فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته‏)‏‏.‏

وقد نقل الناقلون هذه القصة من الطرق الصحيحة، وربما ترك بعض الرواة بعض الخبر اختصارًا للدلالة على ما حذف منه، إذ كانت القصة مشهورة، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم من قاتل غيره أو ضرب عبده أن يجتنب الوجه إكرامًا لآدم؛ لمشابهة المضروب له، فلا يضرب صورة خلقها الله بيده، فانتسب إلى هذا العبد، ومراعاة لحق الأبوة، وتفضيل الله لها حين خلق آدم بيديه، وأسجد له ملائكته، والهاء راجعة فى قوله‏:‏ ‏(‏على صورته‏)‏ للمضروب‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وللناس تأويلات فى ضمير الهاء من صورته، إلى من ترجع‏؟‏ لم أر لذكرها وجهًا، إذ لا يصح عندى فى ذلك غير ما قاله المهلب‏.‏

باب الْعَبْدُ رَاعٍ فِى مَالِ سَيِّدِهِ وَنَسَبَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الْمَالَ إِلَى السَّيِّدِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِى أَهْلِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِى مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ‏)‏، وَأَحْسِبُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏وَالرَّجُلُ فِى مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذه كلها أمانات تلزم من استرعيها أداء النصيحة فيها لله، ولمن استرعاه عليها، ولكل واحد منهم أن يأخذ مما استرعى أمره ما يحتاج إليه بالمعروف من نفقة ومؤنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏العبد والخادم راع فى مال سيده‏)‏، ففيه حجة لمن قال‏:‏ إن العبد لا يملك‏.‏

واختلف أهل العلم فى ملك العبد لما فى يديه من المال، فذهبت طائفة إلى أنه لا يملك شيئًا؛ لأن الرق منافى الملك، وماله لسيده عند عتقه وعند بيعه إياه، وإن لم يشترط ماله سيده، روى هذا عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبى هريرة، وعن سعيد بن المسيب، وهو قول الثورى، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ ماله له دون سيده فى العتق والبيع، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عمر، وعائشة، وبه قال النخعى، والحسن البصرى‏.‏

واضطرب قول مالك فى ملك العبد، فقال‏:‏ من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع‏.‏

وقال فيمن أعتق عبدًا‏:‏ أن ماله للعبد، إلا أن يشترطه السيد، فدل قوله فى البيع أن العبد لا يملك، إذ جعل المال للسيد دون اشتراط، ودل قوله فى العتق أن العبد يملك، إذ جعل ماله له دون اشتراط‏.‏

والحجة له فى البيع حديث ابن عمر، عن أبيه، عن النبى عليه السَّلام أنه قال‏:‏ ‏(‏من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع‏)‏، والحجة له فى العتق حديث عبيد الله بن أبى جعفر، عن بكير بن الأشج، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبى عليه السَّلام قال‏:‏ ‏(‏من أعتق عبدًا، فماله له إلا أن يستثنيه سيده‏)‏‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ السنة أن العبد إذا أعتق تبعه ماله، ولم يكن أحد أعلم بسنة ماضية من ابن شهاب‏.‏

وقال قتادة فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عبدًا مملوكًا لا يقدر على شىء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 75‏]‏‏:‏ هو الكافر لا يعمل بطاعة الله، ولا يعمل خيرًا،‏)‏ ومن رزقناه منا رزقًا حسنًا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 75‏]‏، هو المؤمن يطيع الله فى نفسه وماله‏.‏

وحجة من قال‏:‏ إن العبد لا يملك شيئًا أن إضافة الشىء إلى ما لا يجوز أن يملك أشهر فى كلام العرب من أن يحتاج إلى شاهد، وذلك كقولهم‏:‏ ماء النهر، وسرج الدابة، فإضافة المال إلى العبد فى قوله، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏من باع عبدًا وله مال‏)‏، من أجل أنه بيده، لا أنه يملكه، وخاطب النبى صلى الله عليه وسلم قومًا عربًا يعرفون ما خوطبوا به‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فأخبر النبى عليه السَّلام أن ذلك المال للبائع إذا لم يشترطه المبتاع فى عقد البيع، كما أخبر أن ثمرة النخل المؤبر للبائع إذا باع مالكه أصل النخل، كما كانت له قبل بيع النخل إذا لم يشترطها المبتاع فى عقد البيع‏.‏

قالوا‏:‏ ولو كان المال للعبد قبل بيع السيد له، لم يكن بيعه ليزيل ملكه عنه إلى البائع ولا إلى المشترى‏.‏

قالوا‏:‏ وفى إجماع الأمة أن لسيد العبد قبض مال العبد منه، وأن العبد ممنوع من التصرف فيه إلا بإذن سيده الدليل الواضح على صحة ما قلنا، وإلى هذا المذهب أشار البخارى بقوله‏:‏ ونسب النبى صلى الله عليه وسلم المال إلى السيد فى قوله‏:‏ ‏(‏والعبد راع فى مال سيده‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ ومن حجة الذين قالوا‏:‏ العبد يملك، أنهم قالوا للمحتجين عليهم بما تقدم‏:‏ هذا يلزم فى السفيه، فإنه لا يجوز أن يتصرف فى ماله إلا بإذن وصيه، والمال ملك له، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏، فكذلك العبد‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏، يعنى مالاً، بدليل قوله‏:‏ ‏(‏إن ترك خيرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏، يعنى مالاً‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏، فوصفهم بالفقر والغنى، فدل أنهم مالكون، وقال‏:‏ ‏(‏ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وآتوهن أجورهن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏، وهى المهور، فدل أن الإماء مالكات لها؛ لجواز دفعها إليهن، إذ لو كن غير مالكات لما جاز دفعها إليهن مع أمره تعالى بالتوثق عند دفع الحقوق إلى أهلها‏.‏